المسألة الأولى : اعلم أن الولاية المنفية في هذه الصورة، هي الولاية المثبتة في القسم الذي تقدم، فمن حمل تلك الولاية على الإرث، زعم أن الولاية المنفية ههنا هي الإرث، ومن حمل تلك الولاية على سائر الاعتبارات المذكورة، فكذا ههنا. واحتج الذاهبون، إلى أن المراد من هذه الولاية الإرث، بأن قالوا : لا يجوز أن يكون المراد منها الولاية بمعنى النصرة والدليل عليه أنه تعالى عطف عليه قوله :﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ ولا شك أن ذلك عبارة عن الموالاة في الدين والمعطوف مغاير للمعطوف عليه، فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة وهذا الاستدلال ضعيف، لأنا حملنا تلك الولاية على التعظيم والإكرام وهو أمر مغاير للنصرة، ألا ترى أن الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم والإجلال فسقط هذا الدليل.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢١
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾.
واعلم أن قوله تعالى :﴿مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ﴾ يوهم أنهم لما لم يهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم سقطت ولايتهم مطلقاً، فأزال الله تعالى هذا الوهم بقوله :﴿مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ يعني أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية وحصلت، والمقصود منه الحمل على المهاجرة والترغيب فيها، لأن المسلم متى سمع أن الله تعالى يقول : إن قطع المهاجرة انقطعت الولاية بينه وبين المسلمين ولو هاجر حصلت تلك الولاية وعادت على أكمل الوجوه، فلا شك أن هذا يصير مرغباً له في الهجرة، والمقصود من المهاجرة كثرة المسلمين واجتماعهم وإعانة بعضهم لبعض، وحصول الألفة الشوكة وعدم التفرقة.
المسألة الثالثة : قرأ حمزة ﴿مِّن وَلَـايَتِهِم﴾ بكسر الواو، والباقون بالفتح. قال الزجاج : من فتح جعلها من النصرة والنسب. وقال : والولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة للفصل بين المعنيين وقد يجوز كسر الولاية لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة كالقصارة والخياطة فهي مكسورة. وقال أبو علي الفارسي : الفتح أجود، لأن الولاية ههنا من الدين والكسر في السلطان.
والحكم الثاني : من أحكام هذا القسم الثالث، قوله تعالى :﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾.
واعلم أنه تعالى لما بين الحكم في قطع الولاية بين تلك الطائفة من المؤمنين، بين أنه ليس المراد منه المقاطعة التامة كما في حق الكفار بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا لم استنصروكم فانصروهم / ولا تخذلوهم. روي أنه لما نزل قوله تعالى :﴿مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ قام الزبير وقال : فهل نعينهم على أمر إن استعانوا بنا ؟
فنزل ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ ثم قال تعالى :﴿إِلا عَلَى قَوْما بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ﴾ والمعنى أنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك.
ثم قال تعالى :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ وفيه مسائل :
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢١
المسألة الأولى : اعلم أن هذا الترتيب الذي اعتبره الله في هذه الآية في غاية الحسن لأنه ذكر ههنا أقساماً ثلاثة : فالأول : المؤمنون من المهاجرين والأنصار وهم أفضل الناس وبين أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً.
والقسم الثاني : المؤمنون الذين لم يهاجروا فهؤلاء بسبب إيمانهم لهم فضل وكرامة وبسبب ترك الهجرة لهم حالة نازلة فوجب أن يكون حكمهم حكماً متوسطاً بين الإجلال والإذلال وذلك هو أن الولاية المثبتة للقسم الأول، تكون منفية عن هذا القسم، إلا أنهم يكونون بحيث لو استنصروا المؤمنين واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم. فهذا الحكم متوسط بين الإجلال والإذلال. وأما الكفار فليس لهم البتة ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة. فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصلة بوجه من الوجوه، فظهر أن هذا التريب في غاية الحسن.
المسألة الثانية : قال بعض العلماء : قوله :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ يدل على أن الكفار في الموارثة مع اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة، فالمجوسي يرث الوثني، والنصراني يرث المجوسي، لأن الله تعالى قال :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾.


الصفحة التالية
Icon