الوجه الرابع : في هذا الباب : أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله :﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ (التوبة : ١) فلما كان هذا عين ذلك الكلام وتأكيداً له وتقريراً له، لزم وقوع الفاصل بينهما، فكان إيقاع الفصل بينهما تنبيهاً على كونهما سورتين متغايرتين، وترك كتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيهاً على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى.
الوجه الخامس : قال ابن عباس : سألت علياً رضي الله عنه : لم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما ؟
قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود / وليس فيها أمان. ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى، وأكده بقوله تعالى :﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى ا إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ (النساء : ٩٤) فقيل له : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل الحرب بسم الله الرحمن الرحيم. فإجاب عنه : بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله، ولم ينبذ إليهم عهدهم. ألا تراه قال في آخر الكتاب :"والسلام على من اتبع الهدى" وأما في هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهود فظهر الفرق.
والوجه السادس : قال أصحابنا : لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن، أمر بأن لا تكتب ههنا، تنبيهاً على كونها آية من أول كل سورة، وأنها لما لم تكن آية من هذه السورة، لا جرم لم تكتب، وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢٢
٥٢٥
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : معنى البراءة انقطاع العصمة. يقال : برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة، ومن هنا يقال برئت من الدين، وفي رفع قوله :﴿بَرَآءَةٌ﴾ قولان : الأول : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة. قال الفراء : ونظيره قولك إذا نظرت إلى رجل جميل، جميل والله، أي هذا جميل والله، وقوله :﴿مَنْ﴾ لابتداء الغاية، والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم، كما تقول كتاب من فلان إلى فلان. الثاني : أن يكون قوله :﴿بَرَآءَةٌ﴾ مبتدأ وقوله :﴿مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾ صفتها وقوله :﴿إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم﴾ هو الخبر كما تقول رجل من بني تميم في الدار.
فإن قالوا : ما السبب في أن نسب البراءة إلى الله ورسوله، ونسب المعاهدة إلى المشركين ؟
قلنا قد أذن الله في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعاهدهم ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين.
المسألة الثالثة : روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف النافقون وأرجفوا بالأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم العهد إليهم.
فإن قيل : كيف يجوز أن ينقض النبي صلى الله عليه وسلّم العهد ؟
قلنا : لا يجوز أن ينقض العهد إلا على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم فينبذ العهد إليهم، حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله :﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانابِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ ﴾ (الأنفال : ٥٨) وقال أيضاً :﴿ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾ (الأنفال : ٥٦) والثاني : أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر الله تعالى بقطعه. فلما أمره الله تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط. والثالث : أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدة وينقضي العهد ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى العهد، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة، فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد البتة، لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله منه بريئان، ولهذا المعنى قال الله تعالى :﴿إِلا الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْـاًا وَلَمْ يُظَـاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ﴾ (التوبة : ٤) وقيل : إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢٥


الصفحة التالية
Icon