واعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين : أحدهما : قوله :﴿ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ﴾ والثاني : قوله :﴿وَلَمْ يُظَـاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا﴾ والأقرب أن يكون المراد من الأول أن يقدموا على المحاربة بأنفسهم، ومن الثاني :/ أن يهيجوا أقواماً آخرين وينصروهم ويرغبوهم في الحرب. ثم قال :﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ﴾ والمعنى أن الذين ما غادروا من هذين الوجهين، فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجعلوا الوافين كالغادرين. وقوله :﴿فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ﴾ أي أدوه إليهم تاماً كاملاً. قال ابن عباس : بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلتين أو يكون المراد أن هذه الطائفة لما أنفوا النكث ونقض العهد، استحقوا من الله أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث. روى أنه عدت بنو بكر على بن خزاعة في حال غيبة رسول الله وظاهرتهم قريش بالسلاح، حتى وقد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله فأنشده :
لا هم إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيك ألا تلدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال عليه الصلاة والسلام :"لا نصرت إن لم أنصركم" وقرىء ﴿لِمَ﴾ بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢٨
٥٢٩
قوله تعالى :﴿الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍا فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ وَءَاتَوُا ﴾.
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الليث : يقال سلخت الشهر إذا خرجت منه، وكشف أبو الهيثم عن هذا المعنى فقال : يقال أهللنا هلال شهر كذا، أي دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً فجزءاً، حتى نسلخه عن أنفسنا وأنشد :
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله
كفى قائلاً سلخي الشهور وإهلالي
وأقول تمام البيان فيه أن الزمان محيط بالشيء وظرف له، كماأن المكان محيط به وظرف له ومكان الشيء عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر ومن الجسم المحوي فإذا انسلخ الشيء من جلده فقد انفصل من السطح الباطن من ذلك الجلد وذلك السطح، وهو مكانه في الحقيقة فكذلك إذا تم الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به، ودخل في شهر آخر، والسلخ اسم لانفصال الشيء عن مكانه المعين، فجعل أيضاً اسماً لانفصاله عن زمانه المعين، لما بين المكان والزمان من المناسبة التامة الشديدة. وأما الأشهر الحرم فقد فسرناها في قوله :﴿فَسِيحُوا فِى الارْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾ (التوبة : ٢) وهي يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، والمراد من كونها حرماً، أن الله حرم القتل والقتال فيها. ثم إنه تعالى عند انقضاء هذه الأشهر الحرم أذن في أربعة أشياء : أولها : قوله :﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾ (النساء : ٨٩) وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق، في أي وقت، وأي مكان. وثانيها : قوله :﴿وَخُذُوهُمْ﴾ أي بالأسر، والأخيذ الأسير. وثالثها : قوله :﴿وَاحْصُرُوهُمْ﴾ معنى الحصر المنع من الخروج من محيط. قال ابن عباس : يريد إن تحصنوا فاحصروهم. وقال الفراء : حصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام. ورابعها : قوله تعالى :﴿وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم : رصدت فلاناً أرصده إذا ترقبته، قال المفسرون : المعنى اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة، قال الأخفش في الكلام محذوف والتقدير : اقعدوا لهم على كل مرصد.
جزء : ١٥ رقم الصفحة : ٥٢٩
ثم قال تعالى :﴿فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن تارك الصلاة يقتل، قال لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقاً بجميع الطرق، ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة، وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فعندما لم يوجد هذا المجموع، وجب أن يبقى إباحة الدم على الأصل.
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد الإقرار بهما واعتقاد وجوبهما ؟
والدليل عليه أن تارك الزكاة لا يقتل.
أجابوا عنه : بأن ما ذكرتم عدول عن الظاهر، وأما في تارك الزكاة فقد دخله التخصيص.
فإن قالوا : لم كان حمل التخصيص أولى من حمل الكلام على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة ؟
قلنا : لأنه ثبت في أصول الفقه أنه مهما وقع التعارض بين المجاز وبين التخصيص، فالتخصيص أولى بالحمل.


الصفحة التالية
Icon