أما قوله تعالى :﴿شَـاهِدِينَ عَلَى ا أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ﴾ قال الزجاج : قوله :﴿شَـاهِدِينَ﴾ حال والمعنى ما كان لهم أن يعمروا المساجد حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها : الأول : وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك كفر، فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين الثاني : قال السدي : شهادتهم على أنفسهم بالكفر، هو أن النصراني إذا قيل له من أنت. فيقول : نصراني. واليهودي يقول يهودي وعابد الوثن يقول : أنا عابد الوثن، وهذا الوجه إنما يتقرر بما ذكرناه في الوجه الأول. الثالث : أن الغلاة منهم كانوا يقولون كفرنا بدين محمد وبالقرآن فلعل المراد ذلك. الرابع : أنهم كانوا يطوفون عراة يقولون لا نطوف عليها بثياب عصينا الله فيها، وكلما طافوا شوطاً سجدوا للأصنام، فهذا هو شهادتهم على أنفسهم بالشرك. الخامس : أنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. السادس : نقل عن ابن عباس : أنه قال : المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر. قال : وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى :﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ قال القاضي : هذا الوجه عدول عن الحقيقة، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذر إجراء اللفظ على حقيقته. أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز. وأقول : لو قرأ أحد من السلف ﴿شَـاهِدِينَ عَلَى ا أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ﴾ من قولك : زيد نفيس وعمرو أنفس منه، لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر.
ثم قال :﴿أُوالَـا ئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ﴾ والمراد منه : ما هو الفصل الحق في هذا الكتاب، وهو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل من أعمال البر، مثل إكرام الوالدين، وبناء الرباطات، وإطعام الجائع، وإكرام الضيف فكل ذلك باطل، لأن عقاب كفرهم زائد على ثواب هذه الاْشياء فلا يبقى لشيء منها أثر في استحقاق الثواب والتعظيم مع الكفر. وأما الكلام في الأحباط فقد تقدم في هذا الكتاب مراراً فلا نعيده.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢
ثم قال :﴿وَفِى النَّارِ هُمْ خَـالِدُونَ﴾ وهو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار. واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلداً في النار من وجهين : الأول : أن قوله :﴿وَفِى النَّارِ هُمْ خَـالِدُونَ﴾ يفيد الحصر، أي هم فيها خالدون لا غيرهم، ولما كان هذا الكلام وارد في حق الكفار، ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر. الثاني : أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار على كفرهم، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الله لما صح تهديد الكافر به، ثم إنه تعالى لما بين أن الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد، بين أن المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربعة :
الصفة الأولى : قوله :﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ﴾ وإنما قلنا إنه لا بد من الإيمان بالله لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه، فما لم يكن مؤمناً بالله، امتنع أن يبني موضعاً يعبد الله فيه، وإنما قلنا إنه لا بد من أن يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر لأن الاشتغال بعبادة الله تعالى إنما تفيد في القيامة، فمن أنكر القيامة لم يعبد الله، ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى.
فإن قيل : لم لم يذكر الإيمان برسول الله ؟
قلنا فيه وجوه : الأول : أن المشركين كانوا يقولون : إن محمداً إنما ادعى رسالة الله طلباً للرياسة والملك/ فههنا ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، وترك النبوة كأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذا القدر. الثاني : أنه لما ذكر الصلاة، والصلاة لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة كان ذلك كافياً. الثالث : أنه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، ثم المعهود السابق من الصلاة من المسلمين ليس إلا الأعمال التي كان أتى بها محمد صلى الله عليه وسلّم، فكان ذكر الصلاة دليلاً على النبوة من هذا الوجه.
الصفة الثانية : قوله :﴿لَّيْسَ الْبِرَّ﴾ والسبب فيه أن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات، فالإنسان ما لم يكن مقراً بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم على بناء المساجد.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢
الصفة الثالثة : قوله :﴿لَّيْسَ الْبِرَّ﴾.


الصفحة التالية
Icon