واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند الله بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر، والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى :﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ وهي درجة العندية، وذلك لأن من آمن بالله وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتاً إلى الدنيا، ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح، وإزالة / حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا، فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا، فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة. ثم إنه بعده لا بد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها، وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للهلاك والبوار، ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك، وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض، ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلاً بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام، وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال، فيصير الإنسان شهيداً مشاهداً لعالم الجلال مكاشفاً بنور الجلالة مشهوداً له بقوله تعالى :﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ﴾ وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد، وهو المراد من قوله :﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ وهنا يحق الوقوف في الوصول.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٦
ثم قال تعالى :﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَه ا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف، نازلاً إلى الأدون فالأدون، ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين.
أما الأول فنقول : فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان، وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله. وقوله :﴿وَجَنَّـاتٍ لَّهُمْ﴾ إشارة إلى حصول المنافع العظيمة وقوله :﴿فِيهَا نَعِيمٌ﴾ إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة، ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات وقوله :﴿مُّقِيمٌ﴾ عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة. ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات : أولها :﴿مُّقِيمٌ﴾ وثانيها : قوله :﴿خَـالِدِينَ فِيهَآ﴾ وثالثها : قوله :﴿أَبَدًا ﴾ فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، وذلك هو حد الثواب. وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة. ومن المتكلمين من قال قوله :﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾ المراد منه خيرات الدنيا وقوله :﴿وَرِضْوَانٍ﴾ المراد منه كونه تعالى راضياً عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله :﴿وَجَنَّـاتٍ﴾ المراد منه المنافع وقوله :﴿لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ﴾ المراد منه كون تلك النعم خالصة عن المكدرات، لأن النعيم مبالغة في النعمة / وقوله :﴿مُّقِيمٌ * خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ﴾ المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب.
وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول : المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله :﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم﴾.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٦