المسألة الثانية : قوله :﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِه ﴾ إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة، وقد وقع الأمر مطابقاً لذلك الخبر فكان معجزة.
ثم قال تعالى :﴿إِن شَآءَ ﴾ ولسائل أن يسأل فيقول : الغرض بهذا الخبر إزالة الخوف بالعيلة، وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود، وجوابه من وجوه الأول : أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب، فيكون الإنسان أبداً متضرعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات. الثاني : أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب، كما في قوله :﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ﴾ الثالث : أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور، لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه :﴿وَارْزُقْ أَهْلَه مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ (البقرة : ١٢٦) وكلمة "من" تفيد التبعيض. فقوله تعالى في هذه الآية :﴿إِن شَآءَ ﴾ المراد منه ذلك التبعيض.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٣
ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليم بأحوالكم، وحكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب، والله أعلم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٣
٢٧
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المشركين في إظهار البراءة عن عهدهم، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام، وأورد الإشكالات التي ذكروها، وأجاب عنها بالجوابات الصحيحة ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية، فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة، وجبت مقاتلتهم إلى أن يسلموا، أو إلى أن يعطوا الجزية.
فالصفة الأولى : أنهم لا يؤمنون بالله. واعلم أن القوم يقولون : نحن نؤمن بالله، إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه. فأما الموجود الذي لا يكون جسماً ولا حالاً فيه فهو منكر له، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالاً في جسم، فحينئذ يكون المشبه منكراً لوجود الإله. فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله.
فإن قيل : فاليهود قسمان : منهم مشبهة، ومنهم موحدة، كما أن المسلمين كذلك فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله، فما قولكم في موحدة اليهود ؟
قلنا : أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال : لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وأما النصارى : فهم يقولون : بالأب والابن وروح القدس ؛ والحلول والاتحاد، وكل ذلك ينافي الإلهية.
فإن قيل : حاصل الكلام : أن كل من نازع في صفة من صفات الله، كان منكراً لوجود الله تعالى، وحينئذ يلزم أن تقولوا : إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله تعالى، لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى. ألا ترى أن أهل السنة اختلفوا اختلافاً شديداً في هذا الباب، فالأشعري أثبت البقاء صفة، والقاضي أنكره، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة، والباقون أنكروه، والقاضي أثبت إدراك الطعوم، وإدراك الروائح، وإدراك الحرارة والبرودة، وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس، والأستاذ أبو إسحق أنكره، وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالاً سبعة معللة بتلك الصفات، ونفاة الأحوال أنكروه، وعبد الله بن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمراً ولا نهياً ولا خبراً، ثم صار ذلك في الإنزال، والباقون أنكروه، وقوم من قدماء الأصحاب أثبتوا لله خمس كلمات، في الأمر، والنهي، والخبر، والاستخبار، والنداء، والمشهور أن كلام الله تعالى واحد، واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور أم لا ؟
فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات الله تعالى من هذه الوجوه الكثيرة، وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق في صفات الله تعالى، فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٧