المسألة الثانية عشرة : اتفق المسلمون على أنه يحسن منالله تعالى تعذيب الكفار، وقال بعضهم لا يحسن وفسروا قوله :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ بأنهم يستحقون ذلك لكن كرمه يوجب عليه العفو، ولنذكر ههنا دلائل الفريقين، أما الذين لا يجوزون التعذيب فقد تمسكوا بأمور. أحدها : أن ذلك التعذيب ضرر خالٍ عن جهات المنفعة، فوجب أن يكون قبيحاً، أما أنه ضرر فلا شك، وأما أنه خالٍ عن جهات المنفعة، فلأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله تعالى، أو إلى غيره، والأول باطل، لأنه سبحانه متعالٍ عن النفع والضرر بخلاف الواحد منا في الشاهد، فإن عبده إذا أساء إليه أدبه، لأنه يستلذ بذلك التأديب لما كان في قلبه من حب الانتقام ولأنه إذا أدبه فإنه ينزجر بعد ذلك عما يضره. والثاني : أيضاً باطل، لأن تلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى المعذب أو إلى غيره أما إلى المعذب فهو محال، لأن الأَضرار لا يكون عين الانتفاع وأما إلى غيره فمحال، لأن دفع الضرر أولى بالرعاية من إيصال النفع، فإيصال الضرر إلى شخص لغرض إيصال النفع إلى شخص آخر ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو باطل وأيضاً فلا منفعة يريد الله تعالى إيصالها إلى أحد إلا وهو قادر على ذلك الاتصال من غير توسيط الإضرار بالغير، / فيكون توسيط ذلك الإضرار عديم الفائدة. فثبت أن التعذيب ضرر خالٍ عن جميع جهات المنفعة وأنه معلوم القبح ببديهة العقل، بل قبحه أجلى في العقول من قبح الكذب الذي لا يكون ضاراً، والجهل الذي لا يكون ضاراً، بل من قبح الكذب الضار والجهل الضار، لأن ذلك الكذب الضار وسيلة إلى الضرر وقبح ما يكون وسيلة إلى الضرر، دون قبيح نفس الضرر، وإذا ثبت قبحه امتنع صدوره من الله تعالى، لأنه حكيم والحكيم لا يفعل القبيح، وثانيها : أنه تعالى كان عالماً بأن الكافر لا يؤمن على ما قال :﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة : ٦) إذا ثبت هذا ثبت أنه متى كلف الكافر لم يظهر منه إلا العصيان، فلو كان ذلك العصيان سبباً للعقاب لكان ذلك التكليف مستعقباً لاستقحاق العقاب، إما لأنه تمام العلة، أو لأنه شطر العلة، وعلى الجملة فذلك التكليف أمر متى حصل حصل عقيبة لا محالة العقاب، وماكان مستعقباً للضرر الخالي عن النفع كان قبيحاً، فوجب أن يكون ذلك التكليف قبيحاً، والقبيح لا يفعله الحكيم، فلم يبق ها هنا إلا أحد أمرين، إما أن يقال لم يوجد هذا التكليف أو إن وجد لكنه لا يستعقب العقاب، وكيف كان فالمقصود حاصل وثالثها : أنه تعالى إما أن يقال خلق الخلق للإنفاع، أو للإضرار، أولاً للإنفاع ولا للإضرار، فإن خلقهم للإنفاع وجب أن لا يكلفهم ما يؤدي به إلى ضد مقصوده مع علمه بكونه كذلك، ولما علم إقدامهم على العصيان لو كلفهم كان التكليف فعلاً يؤدي بهم إلى العقاب، فإذا كان قاصداً لإنفاعهم وجب أن لا يكلفهم، وحيث كلفهم دل على أن العصيان لا يكون سبباً لاستحقاق العذاب، ولا جائز أن يقال. خلقهم لا للإنفاع ولا للإضرار، لأن الترك على العدم يكفي في ذلك، ولأنه على هذا التقدير يكون عبثاً، ولا جائز أن يقال : خلقهم للإضرار، لأن مثل هذا لا يكون رحيماً كريماً، وقد تطابقت العقول والشرائع على كونه رحيماً كريماً، وعلى أنه نعم المولى ونعم النصير، وكل ذلك يدل على عدم العقاب. ورابعها : أنه سبحانه هو الخالق للدواعي التي توجب المعاصي، فيكون هو الملجىء إليها فيقبح منه أن يعاقب عليها، إنما قلنا إنه هو الخالق لتلك الدواعي، لما بينا أن صدور الفعل عن مقدرة يتوقف على انضمام الداعية التي يخلقها الله تعالى إليها، وبينا أن ذلك يوجب الجبر، وتعذيب المجبور قبيح في العقول/ وربما قرروا هذا من وجه آخر فقالوا : إذا كانت الأوامر والنواهي الشرعية قد جاءت إلى شخصين من الناس فقبلها أحدهما وخالفها الآخر فأثيب أحدهما وعوقب الآخر، فإذا قيل لم قيل هذا وخالف الآخر ؟
فيقال لأن القابل أحب الثواب وحذر العقاب فأطاع، والآخر لم يحب ولم يحذر فعصى، أو أن هذا أصغى إليّ من وعظه وفهم عنه مقالته فأطاع، وهذا لم يصغ ولم يفهم فعصي، فيقال : ولم أصغي هذا وفهم ولم يصغ ذلك ولم يفهم ؟
فنقول : لأن هذا لبيب حازم فطن، وذلك أخرق جاهل غبي فيقال ولم اختص هذا بالحزم والفطنة دون ذاك، ولا شك أن الفطنة والبلادة من الأحوال الغريزية. فإن الإنسان لا يختار الغباوة والخرق ولا يفعلهما في نفسه بنفسه ؟
فإذا تناهت / التعليلات إلى أمور خلقها الله تعالى اضطراراً علمنا أن كل هذه الأمور بقضاء الله تعالى وليس يمكنك أن تسوي بين الشخصين اللذين أطاع أحدهما وعصى الآخر في كل حال أعني في العقل والجهل، والفطانة والغباوة، والحزم والخرق، والمعلمين والباعثين والزاجرين، ولا يمكنك أن تقول إنهما لو استويا في ذلك كله لما استويا في الطاعة والمعصية، فإذن سبب الطاعة والمعصية من الأشخاص أمور وقعت بتخليق الله تعالى وقضائه، وعند هذا يقال : أين من العدل