وأما قوله :﴿وَهُمْ صَـاغِرُونَ﴾ فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس. ويؤخذ بلحيته، فيقال له : أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه، فهذا معنى الصغار. وقيل : معنى الصغار ههنا هو نفس إعطاء الجزية، وللفقهاء أحكام كثيرة من توابع الذل والصغار مذكورة في كتب الفقه.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٧
الحكم الأول
استدللت بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي والوجه في تقريره أن قوله :﴿قَـاتِلُوهُمْ﴾ يقتضي إيجاب مقاتلتهم، وذلك مشتمل على إباحة قتلهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم، فلما قال :﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَـاغِرُونَ﴾ علمنا أن مجموع هذه الأحكام قد انتهت عند إعطاء الجزية، ويكفي في انتهاء المجموع ارتفاع أحد أجزائه، فإذا ارتفع وجوب قتله وإباحة دمه، فقد ارتفع ذلك المجموع، ولا حاجة في ارتفاع المجموع إلى ارتفاع جميع أجزاء المجموع.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله :﴿وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ﴾ يدل على عدم وجوب القصاص بقتلهم وقوله :﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ لا يوجب ارتفاع ذلك الحكم، لأنه كفى في انتهاء ذلك المجموع انتهاء أحد أجزائه وهو وجوب قتلهم، فوجب أن يبقى بعد أداء الجزية عدم وجوب القصاص كما كان.
الحكم الثاني
الكفار فريقان، فريق عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا، فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية، ويجب قتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله، وفريق هم أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى والسامرة والصابئون، وهذان الصنفان سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا، والمجوس أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب، لقوله عليه السلام :"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وروى أنه صلى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر، فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية، وإنما قلنا إنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، لأنه تعالى لما ذكر الصفات الأربعة، وهي قوله تعالى :﴿قَـاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُه وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ﴾ قيدهم بكونهم من أهل الكتاب وهو قوله :﴿مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ﴾ وإثبات ذلك الحكم في غيرهم يقتضي إلغاء هذا القيد المنصوص عليه وأنه لا يجوز.
الحكم الثالث
في قدر الجزية. قال أنس : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على كل محتلم ديناراً، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين. قال أصحابنا : وأقل الجزية دينار، ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي، فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين، وعلى الغني أربعة دنانير، والدليل على ما ذكرنا : أن الأصل تحريم أخذ مال المكلف إلا أن قوله :﴿حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ﴾ يدل على أخذ شيء، فهذا الذي قلناه هو القدر الأقل، فيجوز أخذه والزائد عليه لم يدل عليه لفظ الجزية والأصل فيه الحرمة، فوجب أن يبقى عليها.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٢٧
الحكم الرابع
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في أول السنة، وعند الشافعي رحمه الله تعالى في آخرها.
الحكم الخامس
تسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة رحمه الله، لقوله عليه الصلاة والسلام :"ليس على المسلم جزية" وعند الشافعي رحمه الله لا تسقط.
الحكم السادس
قال أصحابنا : هؤلاء إنما أقروا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل وأيضاً مكناهم من أيديهم، فربما يتفكرون فيعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلّم ونبوته، فأمهلوا لهذا المعنى. والله أعلم. وبقي ههنا سؤالان :
السؤال الأول : كان ابن الراوندي يطعن في القرآن ويقول : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى. قوله :﴿تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا * وَمَا يَنابَغِى لِلرَّحْمَـانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ (مريم : ٩٠ ـ ٩٢) فبين أن إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحد، ثم إنه لما أخذ منهم ديناراً واحداً قررهم عليه وما منعهم منه.
والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر، بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدة، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوة دلائله، فينتقل من الكفر إلى الإيمان.
السؤال الثاني : هل يكفي في حقن الدم دفع الجزية أم لا ؟


الصفحة التالية
Icon