جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣١
فإن قيل : إنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره، كما هو قول الخوارج.
والجواب : أن الفاسق، وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه لكن يلعنه، ويستخف به. أما أولئك الأتباع كانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم، فظهر الفرق.
والقول الثاني : في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم، فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول والاتحاد، وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين، فقد يلقى إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون، وشاهدت بعض المزورين ممن كان / بعيداً عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم أنتم عبيدي، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء، ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه، فربما ادعى الإلهية، فإذا كان مشاهداً في هذه الأمة، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة ؟
وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله، وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا أنواع الكفر/ فكفروا بالله، فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله، ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد. وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة.
ثم قال تعالى :﴿وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـاهًا وَاحِدًا ﴾ ومعناه ظاهر، وهو أن التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بذلك.
ثم قال :﴿لا إِلَـاهَ إِلا هُوَا سُبْحَـانَه عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي سبحانه من أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وأن يكون له شريك في كونه مسجوداً ومعبوداً، وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣١
٣٢
اعلم أن المقصود منه بيان نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنصارى، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلّم، وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة شرعه وقوة دينه، والمراد من النور : الدلائل الدالة على صحة نبوته، وهي أمور كثيرة جداً. أحدها : المعجزات القاهرة التي ظهرت على يده، فإن المعجز إما أن يكون دليلاً على الصدق أو لا يكون، فإن كان دليلاً على الصدق، فحيث ظهر المعجز لا بد من حصول الصدق، فوجب كون محمد صلى الله عليه وسلّم صادقاً، وإن لم يدل على الصدق قدح ذلك في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام. وثانيها : القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلى الله عليه وسلّم مع أنه من أول عمره إلى آخره ما تعلم وما طالع وما استفاد وما نظر في كتاب، وذلك من أعظم المعجزات. وثالثها : أن / حاصل شريعته تعظيم الله والثناء عليه، والانقياد لطاعته وصرف النفس عن حب الدنيا، والترغيب في سعادات الآخرة. والعقل يدل على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه. ورابعها : أن شرعه كان خالياً عن جميع العيوب، فليس فيه إثبات ما لا يليق بالله، وليس فيه دعوة إلى غير الله، وقد ملك البلاد العظيمة، وما غير طريقته في استحقار الدنيا، وعدم الالتفات إليها، ولو كان مقصوده طلب الدنيا لما بقي الأمر كذلك، فهذه الأحوال دلائل نيرة وبراهين قاهرة في صحة قوله، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة، وأنواع كيدهم ومكرهم، أرادوا إبطال هذه الدلائل، فكان هذا جارياً مجرى من يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها، وكما أن ذلك باطل وعمل ضائع، فكذا ههنا، فهذا هو المراد من قوله :﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ ثم إنه تعالى وعد محمداً صلى الله عليه وسلّم مزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة وكمال الرتبة فقال :﴿وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَن يُتِمَّ نُورَه وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ﴾.
فإن قيل : كيف جاز أبى الله إلا كذا، ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً ؟
قلنا : أجرى ﴿أَبَى ﴾ مجرى لم يرد، والتقدير : ما أراد الله إلا ذلك، إلا أن الإباء يفيد زيادة عدم الإرادة وهي المنع والامتناع، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم :"وإن أرادوا ظلمنا أبينا" فامتدح بذلك، ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم، لأن ذلك يصح من القوي والضعيف، ويقال : فلان أبى الضيم، والمعنى ما ذكرناه، وإنما سمى الدلائل بالنور لأن النور يهدي إلى الصواب. فكذلك الدلائل تهدي إلى الصواب في الأديان.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٢
٣٣
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأعداء أنهم يحاولون إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلّم وبين تعالى أنه يأبى ذلك الإبطال وأنه يتم أمره، بين كيفية ذلك الإتمام فقال :﴿هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَه بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾.