الوجه الثاني : أن يكون الضمير عائداً إلى اللفظ وفيه وجوه : أحدها : أن يكون التقدير ولا ينفقون الفضة، وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث إنهما معاً يشتركان في ثمنية الأشياء، وفي كونهما جوهرين شريفين، وفي كونهما مقصودين بالكنز، فلما كانا متشاركين في أكثر الصفات كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر. وثانيها : أن ذكر أحدهما قد يغني عن الآخر كقوله تعالى :﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَـارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا﴾ (الجمعة : ١١) جعل الضمير للتجارة. وقال :﴿وَمَن يَكْسِبْ خَطِى ـاَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِه بَرِى ـاًا﴾ (النساء : ١١٢) فجعل الضمير للإثم. وثالثها : أن يكون التقدير : ولا ينفقونها والذهب كذلك كما أن معنى قوله :
وإني وقيار بها لغريب
أي وقيا كذلك.
فإن قيل : ما السبب في أن خصا بالذكر من بين سائر الأموال ؟
قلنا : لأنهما الأصل المعتبر في الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الذين يكنزون الذهب والفضة. قال :﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي فأخبرهم على سبيل التهكم لأن الذين يكنزون الذهب والفضة إنما يكنزونهما ليتوسلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة. فقيل هذا هو الفرج كما يقال تحيتهم ليس إلا الضرب وإكرامهم ليس / إلا الشتم، وأيضاً فالبشارة عن الخير الذي يؤثر في القلب، فيتغير بسببه لون بشرة الوجه، وهذا يتناول ما إذا تغيرت البشرة بسبب الفرح أو بسبب الغم.
ثم قال تعالى :﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم ﴾ هذا ما كنزتم لأنفسكم، وفي قراءة أبي وفيه سؤالات :
السؤال الأول : لا يقال أحميت على الحديد، بل يقال : أحميت الحديد فما الفائدة في قوله :﴿أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا﴾.
والجواب : ليس المراد أن تلك الأموال تحمى على النار، بل المراد أن النار تحمى على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة، أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد، وهو مأخوذ من قوله :﴿نَارٌ حَامِيَةُ ﴾ ولو قيل يوم تحمى لم يفد هذه الفائدة.
فإن قالوا : لما كان المراد يوم تحمى النار عليها، فلم ذكر الفعل ؟
فلنا : لأن النار تأنيثها لفظي، والفعل غير مسند في الظاهر إليه، بل إلى قوله :﴿عَلَيْهَا﴾ فلا جرم حسن التذكير والتأنيث وعن ابن عامر أنه قرأ بالتاء.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٠
السؤال الثاني : ما الناصب لقوله :﴿لايِّ يَوْمٍ﴾.
الجواب : التقدير فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها.
السؤال الثالث : لم خصت هذه الأعضاء ؟
والجواب لوجوه : أحدها : أن المقصود من كسب الأموال حصول فرح في القلب يظهر أثره في الوجوه، وحصول شبع ينتفخ بسببه الجنبان، ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم، فلما طلبوا تزين هذه الأعضاء الثلاثة، لا جرم حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور. وثانيها : أن هذه الأعضاء الثلاثة مجوفة، قد حصل في داخلها آلات ضعيفة يعظم تألمها بسبب وصول أدنى أثر إليها بخلاف سائر الأعضاء. وثالثها : قال أبو بكر الوراق : خصت هذه المواضع بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير بجنبه تباعد عنه وولى ظهره. ورابعها : أن المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع، إما من مقدمه فعلى الجبهة، وإما من خلفه فعلى الظهور، وإما من يمينه ويساره فعلى الجنبين. وخامسها : أن ألطف أعضاء الإنسان جبينه والعضو المتوسط في اللطافة والصلابة جنبه، والعضو الذي هو أصلب أعضاء الإنسان ظهره، فبين تعالى أن هذه الأقسام الثلاثة من أعضائه تصير مغمورة في الكي، والغرض منه التنبيه على أن ذلك الكي يحصل في تلك الأعضاء. وسادسها : أن كمال حال بدن الإنسان في جماله وقوته. أما الجمال فمحله الوجه، وأعز الأعضاء في الوجه الجبهة، فإذا وقع الكي / في الجبهة، فقد زال الجمال بالكلية، وأما القوة فمحلها الظهر والجنبان، فإذا حصل الكي عليها فقد زالت القوة عن البدن، فالحاصل : أن حصول الكي في هذه الأعضاء الثلاثة يوجب زوال الجمال وزوال القوة، والإنسان إنما طلب المال لحصول الجمال ولحصول القوة.
السؤال الرابع : الذي يجعل كياً على بدن الإنسان هو كل ذلك المال أو القدر الواجب من الزكاة.
والجواب : مقتضى الآية : الكل لأنه لما يخرج منه لم يكن الحق منه جزءاً معيناً، بل لا جزء إلا والحق متعلق به، فوجب أن يعذبه الله بكل الأجزاء.


الصفحة التالية
Icon