البحث الأول : الضمير في قوله :﴿فِيهِنَّ﴾ فيه قولان : الأول : وهو قول ابن عباس : أن المراد : فلا تظلموا في الشهور الإثني عشر أنفسكم، والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقاً في جميع العمر. والثاني : وهو قول الأكثرين : أن الضمير في قوله :﴿فِيهِنَّ﴾ عائد إلى الأربعة الحرم. قالوا : والسبب فيه ما ذكرنا أن لبعض الأوقات أثراً في زيادة الثواب على الطاعات والعقاب على المحظورات، والدليل على أن هذا القول أولى وجوه : الأول : أن الضمير في قوله :﴿فِيهِنَّ﴾ عائد إلى المذكور السابق. فوجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله :﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ الثاني : أن الله تعالى خص هذه الأشهر بمزيد الاحترام في آية أخرى وهو قوله :﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌا فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضاً، إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيهاً على زيادتها في الشرف. / الثالث : قال الفراء : الأولى رجوعها إلى الأربعة، لأن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة ﴿فِيهِنَّ﴾ فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها : والأصل فيه أن جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة، ويكنى عن جمع الكثرة، كما يكنى عن واحدة مؤنثة، كما قال حسان بن ثابت :
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٤
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قال : يلمعن ويقطرن، لأن الأسياف والجفنات جمع قلة، ولو جمع جمع الكثرة لقال : تلمع وتقطر، هذا هو الاختيار، ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
فقال بهن والسيوف جمع كثرة.
البحث الثاني : في تفسير هذا الظلم أقوال : الأول : المراد منه النسىء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهر آخر، ويغيرون تكاليف الله تعالى. والثاني : أنه نهى عن المقاتلة في هذه الأشهر. والثالث : أنه نهى عن جميع المعاصي بسبب ما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد أثر في تعظيم الثواب والعقاب، والأقرب عندي حمله على المنع من النسىء، لأن الله تعالى ذكره عقيب الآية.
ثم قال :﴿وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَـاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ وفيه مباحث :
البحث الأول : قال الفراء :﴿كَآفَّةً ﴾ أي جميعاً، والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال فنقول : كافين، أو كافات للنساء ولكنها ﴿كَآفَّةً ﴾ بالهاء والتوحيد، لأنها وإن كانت على لفظ فاعلة فإنها في ترتيب مصدر مثل الخاصة والعامة، ولذلك لم تدخل العرب فيها الألف واللام، لأنها في مذهب قولك قاموا معاً، وقاموا جميعاً. وقال الزجاج : كافة منصوب على الحال، ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع، كما أنك إذا قلت : قاتلوهم عامة، لم تثن ولم تجمع، وكذلك خاصة.
البحث الثاني : في قوله :﴿كَآفَّةً ﴾ قولان : الأول : أن يكون المراد قاتلوهم بأجمعهم مجتمعين على قتالهم، كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة، يريد تعاونوا وتناصروا على ذلك ولا تتخاذلوا ولا تتقاطعوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء. والثاني : قال ابن عباس : قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال، كما أنهم يستحلون قتال جميعكم، والقول الأول أقرب حتى يصح قياس أحد الجانبين على الآخر.
البحث الثالث : ظاهر قوله :﴿وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾ إباحة قتالهم في جميع الأشهر/ ومن الناس من يقول : المقاتلة مع الكفار محرمة، بدليل قوله :﴿مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌا ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُا فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي فلا / تظلموا فيهن أنفسكم باستحلال القتال والغارة فيهن، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله :﴿يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه ﴾ (البقرة : ٢١٧).
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٤
ثم قال :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ يريد مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات والاجتناب عن المحرمات. قال الزجاج : تأويله أنه ضامن لهم النصر.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٤
٤٦
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في ﴿النَّسِى ءُ﴾ قولان :