والجواب عن الثالث من وجوه : الأول : أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع، إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضراً في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وعلي كان غائباً، والحاضر أعلى حالاً من الغائب. الثاني : أن علياً ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة، أما بعدها لما عرفوا أن محمداً غاب تركوه، ولم يتعرضوا له. أما أبو بكر، فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة، فكان بلاؤه أشد. الثالث : أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهوراً فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه، وشاهدوا منه أنه دعا جمعاً من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين، وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته، وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان، وكان يذب عن الرسول صلى الله عليه وسلّم بالنفس والمال. وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن، وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة، ولا جهاد بالسيف والسنان، لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة، فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال، وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي، ولهذا السبب، فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش هو علي / لم يتعرضوا له ألبتة، ولم يقصدوه بضرب ولا ألم، فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد صلى الله عليه وسلّم أشد من خوف علي كرم الله وجهه/ فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل. هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٥٥
أما قوله تعالى :﴿وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ فاعلم أن تقدير الآية أن يقال :﴿إِلا تَنصُرُوهُ﴾ فلا بد له ذلك بدليل صورتين.
الصورة الأولى : أنه قد نصره في واقعة الهجرة ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَـاحِبِه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ﴾.
والصورة الثانية : واقعة بدر، وهي المراد من قوله :﴿وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ لأنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأيد رسوله صلى الله عليه وسلّم بهم، فقوله :﴿وَأَيَّدَه بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ معطوف على قوله :﴿فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.
ثم قال تعالى :﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ا وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا ﴾ والمعنى أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، وكلمة الله هي العليا، وهي قوله لا إله إلا الله. قال الواحدي : والاختيار في قوله :﴿وَكَلِمَةُ اللَّهِ﴾ الرفع، وهي قراءة العامة على الاستئناف، قال الفراء، ويجوز ﴿كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ا وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا ﴾ بالنصب، ولا أحب هذه القراءة لأنه لو نصبها لكان الأجود أن يقال : وكلمة الله العليا، ألا ترى أنك تقول أعتق أبوك غلامك، ولا تقول أعتق غلامه أبوك.
ثم قال :﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي قاهر غالب لا يفعل إلا الصواب.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٥٥
٥٦
اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول، وضرب له من الأمثال ما وصفنا، أتبعه بهذا الأمر الجزم. فقال :﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا﴾ والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد أو على الصفة التي يثقل، وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة. والمفسرون ذكروها. فالأول :﴿خِفَافًا﴾ في النفور لنشاطكم له ﴿وَثِقَالا﴾ عنه لمشتقه عليكم. الثاني :﴿خِفَافًا﴾ لقلة عيالكم ﴿وَثِقَالا﴾ / لكثرتها. الثالث :﴿خِفَافًا﴾ من السلاح ﴿وَثِقَالا﴾ منه. الرابع : ركباناً ومشاة. الخامس : شباناً وشيوخاً. السادس : مهازيل وسمانا. السابع : صحاحاً ومراضاً والصحيح ما ذكرنا إذ الكل داخل فيه لأن الوصف المذكور وصف كلي، يدخل فيه كل هذه الجزئيات.
فإن قيل : أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ؟