المسألة الثانية : قالت المعتزلة البصرية : الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية، بدليل قوله تعالى :﴿وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انابِعَاثَهُمْ﴾ قال أصحابنا : معنى ﴿كَرِهَ اللَّهُ﴾ أراد عدم ذلك الشيء. قال البصرية : العدم لا يصلح أن يكون متعلقاً، وذلك لأن الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر، والعدم نفي محض، وأيضاً فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به، لأن تحصيل الحاصل محال، وجعل العدم عدماً محال، فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال، فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٦٣
أجاب أصحابنا : بأنا نفسر الكراهة في حق الله بإرادة ضد ذلك الشيء، فهو تعالى أراد منهم السكون، فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارهاً لخروجهم مع الرسول.
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى :﴿فَثَبَّطَهُمْ﴾ أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث، وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق، وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه، فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه، ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة، إن كانت من العبد لزم التسلسل، وإن كانت من الله ؛ فحينئذ لزم المقصود. لأن تقوية الداعية ليست إلا من الله، ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل، وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله :﴿وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَـاعِدِينَ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت/ وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله :﴿رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ﴾.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن هذا القول ممن كان ؟
فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة، ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف، لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله، ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلّم لما أذن لهم في التخلف فعاتبه الله، ويحتمل أن يكون القائل هو الله سبحانه لأنه قد كره خروجهم للإفساد، وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره الله انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٦٣
٦٥
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنواع المفاسد الحاصلة من خروجهم وهي ثلاثة : الأول : قوله :﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الخبال والشر والفساد في كل شيء، ومنه يسمى العته بالخبل، والمعتوه بالمخبول، وللمفسرين عبارات قال الكلبي : إلا شراً، وقال يمان : إلا مكراً، وقيل : إلا غياً، وقال الضحاك : إلا غدراً، وقيل : الخبال الاضطراب في الرأي، وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لقوم أخرين، ليختلفوا وتفترق كلمتهم.
المسألة الثانية : قال بعض النحويين قوله :﴿إِلا خَبَالا﴾ من الاستثناء المنقطع وهو أن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، كقولك : ما زادوكم خيراً إلا خبالاً، وههنا المستثنى منه غير مذكور وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الأعم. والعام هو الشيء، فكان الاستثناء متصلاً، والتقدير : ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : إنه تعالى بين في الآية الأولى أنه كره انبعاثهم، وبين في هذه الآية أنه إنما كره ذلك الانبعاث لكونه مشتملاً على هذا الخبال والشر والفتنة، وذلك يدل على أنه تعالى يكره الشر والفتنة والفساد على الإطلاق، ولا يرضى إلا بالخير، ولا يريد إلا الطاعة.
النوع الثاني : من المفاسد الناشئة من خروجهم قوله تعالى :﴿وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ وفي الإيضاح قولان نقلهما الواحدي.
القول الأول : وهو قول أكثر أهل اللغة، أن الأيضاع حمل البعير على العدو، ولا يجوز أن يقال : أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً. يقال : وضع البعير إذا عدا وأوضعه الراكب إذا حمله عليه. قال الفراء : العرب تقول : وضعت الناقة، وأوضع الراكب، وربما قالوا للراكب وضع.
والقول الثاني : وهو قول الأخفش وأبي عبيد أنه يجوز أن يقال : أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد أنه وضع ناقته، روى أبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلّم أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر وقال لبيد :
أرانا موضعين لحكم غيب
ونسخو بالطعام وبالشراب
أراد مسرعين، ولا يجوز أن يكون يريد موضعين الإبل لأنه لم يرد السير في الطريق، وقال عمر بن أبي ربيعة :
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٦٥
تبالهن بالعدوان لما عرفنني
وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
قال الواحدي : والآية تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد.