ثم قال تعالى :﴿حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَـارِهُونَ﴾ والمعنى : أن هؤلاء المنافقين كانوا مواظبين على وجه الكيد والمكر وإثارة الفتنة وتنفير الناس عن قبول الدين حتى جاء الحق الذي كان في حكم المذاهب، والمراد منه القرآن ودعوة محمد، وظهر أمر الله الذي كان كالمستور والمراد بأمر الله الأسباب التي أظهرها الله تعالى وجعلها مؤثرة في قوة شرع محمد عليه الصلاة والسلام، وهم لها كارهون أي وهم لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله كارهون، وفيه تنبيه على أنه لا أثر لمكرهم وكيدهم ومبالغتهم في إثارة الشر، فإنهم منذ كانوا في طلب هذا المكر والكيد، والله تعالى رده في نحرهم وقلب مرادهم وأتى بضد مقصودهم، فلما كان الأمر كذلك في الماضي، فهذا يكون في المستقبل.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٦٦
ثم قال تعالى :﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّى ﴾ يريد ائذن لي في القعود ولاتفتني بسبب الأمر بالخروج، وذكروا فيه وجوها : الأول : لا تفتني أي لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي، فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم، وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكونوا ذكروه على سبيل السخرية، وإن يكونوا أيضاً ذكروه على سبيل الجد، وإن كان ذلك المنافق منافقاً كان يغلب على ظنه كون محمد عليه السلام صادقاً، وإن كان غير قاطع بذلك. والثاني : لا تفتني أي لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها. والثالث : لا تفتني فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي. والرابع : قال الجد بن قيس : قد علمت الأنصار أني مغرم / بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر، يعني نساء الروم، ولكني أعينك بمال فاتركني، وقرىء ﴿وَلا تَفْتِنِّى ﴾ من أفتنة ﴿أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ﴾ والمعنى أنهم يحترزون عن الوقوع في الفتنة، وهم في الحال ما وقعوا إلا في الفتنة، فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف. وأيضاً فهم يبقون خالفين عن المسلمين، خائفين من أن يفضحهم الله، وينزل آيات في شرح نفاقهم وفي مصحف أبي ﴿سُقِطَ﴾ لأن لفظ من موحد اللفظ مجموع المعنى. قال أهل المعاني : وفيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما، فإنه تعالى يبطل عليه ذلك الغرض، ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون.
ثم قال تعالى :﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة بِالْكَـافِرِينَ﴾ قيل : إنها تحيط بهم يوم القيامة. وقيل إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال، فكأنهم في وسطها. وقال الحكماء الإسلامية : إنهم كانوا محرومين من نور معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما كانوا يعتقدون لأنفسهم كمالاً وسعادة سوى الدنيا وما فيها من المال والجاه، ثم إنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين. وقصد الرسول بكل سوء، وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبداً في الترقي والاستعلاء والتزايد، وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم، وأولادهم وأموالهم والحاصل أنهم كانوا محرومين عن كل السعادات الروحانية، فكانوا في أشد الخوف، بسبب الأحوال العاجلة، والخوف الشديد مع الجهل الشديد، أعظم أنواع العقوبات الروحانية، فعبر الله تعالى عن تلك الأحوال بقوله :﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة بِالْكَـافِرِينَ﴾.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٦٦
٦٧
اعلم أن هذا نوع آخر من كيد المنافقين ومن حبث بواطنهم، والمعنى : إن تصبك في بعض الغزوات حسنة سواء كان ظفراً، أو كان غنيمة، أو كان انقياداً لبعض ملوك الأطراف، يسؤهم ذلك، وإن تصبك مصيبة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه يفرحوا به، ويقولوا قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به، وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، من قبل أي قبل ما وقع وتولوا عن / مقام التحدث بذلك، والاجتماع له إلى أهاليهم، وهم فرحون مسرورون، ونقل عن ابن عباس أن الحسنة في يوم بدر، والمصيبة في يوم أحد، فإن ثبت بخبر أن هذا هو المراد وجب المصير إليه، وإلا فالواجب حمله على كل حسنة، وعلى كل مصيبة، إذ المعلوم من حال المنافقين أنهم في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكره الله ههنا.
ثم قال تعالى :﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ وفيه أقوال :
القول الأول : أن المعنى أنه لن يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إلا وهو مقدرعلينا مكتوب عند الله، وكونه مكتوباً عند الله يدل على كونه معلوماً عند الله مقضياً به عند الله، فإن ما سواه ممكن، والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب، والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره.


الصفحة التالية
Icon