المسألة الرابعة : مضى تفسير الكسالى في سورة النساء. قال صاحب "الكشاف" :﴿كُسَالَى ﴾ بالضم والفتح جمع الكسلان : نحو سكارى وحيارى في سكران وحيران. قال المفسرون : هذا الكسل معناه أنه إن كان في جماعة صلى، وإن كان وحده لم يصل. قال المصنف : إن هذا المعنى إنما أثر في منع قبول الطاعات، لأن هذا المعنى يدل على أنه لا يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفاً من مذمة الناس، وهذا القدر لا يدل على الكفر. أما لما ذكره الله تعالى بعد أن وصفهم بالكفر، دل على أن الكسل إنما كان لأنهم يعتقدون أنه غير واجب، وذلك يوجب الكفر.
أما قوله :﴿وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَـارِهُونَ﴾ فالمعنى : أنهم لا ينفقون لغرض الطاعة، بل رعاية للمصلحة الظاهرة، وذلك أنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرماً وضيعة بينهم، وهذا يوجب أن تكون النفس طيبة عند أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله، لأن الله تعالى ذم المنافقين بكراهتهم الإنفاق، وهذا معنى قوله عليه السلام :"أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم" فإن أداها وهو كاره لذلك كان من علامات الكفر والنفاق. قال المصنف رضي الله عنه : حاصل هذه المباحث يدل على أن روح الطاعات الإتيان بها لغرض العبودية والانقياد في الطاعة، فإن لم يؤت بها لهذا الغرض، فلا فائدة فيه، بل ربما صارت وبالاً على صاحبها.
المسألة الخامسة :﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـاتُهُمْ﴾ قرأ حمزة والكسائي ﴿أَن تُقْبَلَ﴾ بالياء والباقون بالتاء على التأنيث. وجه الأولين : أن النفقات في معنى الإنفاق، كقوله :﴿فَمَن جَآءَه مَوْعِظَةٌ﴾ ووجه من قرأ بالتأنيث أن الفعل مسند إلى مؤنث. قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿نَفَقَـاتُهُمْ﴾ و﴿نَفَقَـاتُهُمْ﴾ على الجمع والتوحيد. وقرأ السلمي ﴿أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـاتُهُمْ﴾ على إسناد الفعل إلى الله عز وجل.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧١
٧٤
اعلم أنه تعالى لما قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بين أن الأشياء التي يظنونها من باب المنافع في الدنيا، فإنه تعالى جعلها أسباب تعظيمهم في الدنيا، وأسباب اجتماع المحن والآفات عليهم، ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه، فإنه تعالى لما بين قبائح أفعالهم وفضائح أعمالهم، بين مالهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة. ثم بين في هذه الآية أن ما يظنون أنه من منافع الدنيا فهو في الحقيقة سببب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم، وعند هذا يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا، وإذا وقف الإنسان على هذا الترتيب عرف أنه لا يمكن ترتيب الكلام على وجه أحسن من هذا. ومن الله التوفيق. وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا الخطاب، وإن كان في الظاهر مختصاً بالرسول عليه السلام، إلا أن المراد منه كل المؤمنين، أي لا ينبغي أن تعجبوا بأموال هؤلاء المنافقين والكافرين، ولا بأولادهم ولا بسائر نعم الله عليهم، ونظيره قوله تعالى :﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ (طه : ١٣١) الآية.
المسألة الثانية : الإعجاب : السرور بالشيء مع نوع الافتخار به، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، وهذه الحالة تدل على استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله، فإنه لا يبعد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره، والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بالشيء، ولذلك قال عليه السلام :"ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه" وكان عليه السلام يقول :"هلك المكثرون" وقال عليه السلام :"مالك من مالك / إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" وذكر عبيد بن عمير، ورفعه إلى الرسول عليه السلام :"من كثر ماله اشتد حسابه، ومن كثر بيعه كثرت شياطينه، ومن ازداد من السلطان قرباً، ازداد من الله بعداً" والأخبار المناسبة لهذا الباب كثيرة، والمقصود منها الزجر عن الارتكان إلى الدنيا، والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها. قال بعض المحققين : الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام : الأول : الذي يكون أزلياً أبدياً، وهو الله جل جلاله والثاني : الذي لا يكون أزلياً ولا أبدياً وهو الدنيا. والثالث : الذي يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا محال الوجود، لأنه ثبت بالدليل أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه. والرابع : الذي يكون أبدياً ولا يكون أزلياً وهو الآخرة وجميع المكلفين، فإن الآخرة لها أول، لكن لا آخر لها، وكذلك المكلف سواء كان مطيعاً أو كان عاصياً فلحياته أول، ولا آخر لها.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧٤


الصفحة التالية
Icon