والمرتبة الرابعة : أن يقول :﴿إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال والفوز بالمناصب في الدنيا، وإنما المراد إما اكتساب سعادات الآخرة. وإما الاستغراق في العبودية على ما دل لفظ الآية عليه فإنه قال :﴿إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ ولم يقل : إنا إلى ثواب الله راغبون. ونقل أن عيسى عليه السلام مر بقوم يذكرون الله تعالى فقال : ما الذي يحملكم عليه ؟
قالوا : الخوف من عقاب الله، فقال : أصبتم ثم مر على قوم آخرين يذكرون الله، فقال : ما الذي يحملكم عليه، فقالوا : الرغبة في الثواب/ فقال : أصبتم، ثم مر على قوم قالق مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا : لا نذكره للخوف من العقاب، ولا للرغبة في الثواب، بل لإظهار ذلة العبودية، وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته، وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته. فقال : أنتم المحقون المحققون.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٧٧
٨٩
اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلّم في الصدقات، بين لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء، ولا تعلق لي بها، ولا آخذ لنفسي نصيباً منها، فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات. وههنا مقامات :
المقام الأول : بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال الأغنياء، وصرفها إلى المحتاجين من الناس.
والمقام الثاني : بيان حال هؤلاء الأصناف الثمانية المذكورين في هذه الآية.
أما المقام الأول : فنقول : الحكمة في إيجاب الزكاة أمور، بعضها مصالح عائدة إلى معطى الزكاة. وبعضها عائدة إلى آخذ الزكاة.
أما القسم الأول : فهو أمور : الأول : أن المال محبوب بالطبع، والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها، ولعينها لا لغيرها لأنه لا يمكن أن يقال : إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر وإلا لزم، إما التسلسل وإما الدور، وهما محالان، فوجب الانتهاء في الآشياء المحبوبة إلى ما يكون محبوباً لذاته. والكمال محبوب لذاته، والنقصان مكروه لذاته فلما كانت القدرة صفة كمال، وصفة الكمال محبوبة لذاتها، كانت القدرة محبوبة لذاتها. والمال سبب لحصول تلك القدرة، ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر هو المال، والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب، فكان المال محبوباً، فهذا هو السبب في كونه محبوباً إلا أن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده، ليصير ذلك الإخراج كسراً من شدة الميل إلى المال، ومنعاً من انصراف النفس بالكلية إليها وتنبيهاً لها على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال وإنما تحصل / بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب، فالله سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة. وهو المراد من قوله :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ (التوبة : ١٠٣) أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا.
والوجه الثاني : وهو أن كثرة المال، توجب شدة القوة وكمال القدرة، وتزايد المال يوجب تزايد القدرة، وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة، وتزايد تلك اللذات، يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سبباً لحصول هذه اللذات المتزايدة، وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور، لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة، وهو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال، ولما صارت المسألة مسألة الدور، لم يظهر لها مقطع ولا آخر، فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة الله تعالى ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٨٩
والوجه الثالث : أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب، وسببه ما ذكرنا من أن كثرة المال سبب لحصول القدرة، والقدرة محبوبة لذاتها، والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه، فالإنسان يصير غرقاً في طلب المال، فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك المانع، وهذا هو المراد بالطغيان، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى :﴿كَلا إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى * أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى ﴾ (العلق : ٦، ٧) فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن.
والوجه الرابع : أن النفس الناطقة لها قوتان، نظرية وعملية، فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله، والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله، فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتصافه بكونه محسناً إلى الخلق ساعياً في إيصال الخيرات إليهم دافعاً للآفات عنهم، ولهذا السر قال عليه الصلاة والسلام :"تخلقوا بأخلاق الله".


الصفحة التالية
Icon