المسألة السادسة : لفظة "من" لفظة صالحة للتثنية، والجمع، والواحد. أما في الواحد فقوله تعالى :﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ (الأنعام : ٢٥) وفي الجمع كقوله :﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ (يونس : ٤٢) والسبب فيه أنه موحد اللفظ مجموع المعنى، فعند التوحيد يرجع إلى اللفظ. وعند الجمع يرجع إلى المعنى، وحصل الأمران في هذه الآية ؛ لأن قوله تعالى :﴿يَقُولُ﴾ لفظ الواحد و﴿مِّنْ﴾ لفظ الجمع وبقي من مباحث الآية أسئلة. السؤال الأول : المنافقون كانوا مؤمنين بالله وباليوم الآخر ولكنهم كانوا منكرين لنبوته عليه السلام فلم كذبهم في إدعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر ؟
والجواب : إن حملنا هذه الآية على منافقي المشركين فلا إشكال، لأن أكثرهم كانوا جاهلين بالله ومنكرين البعث والنشور وإن حملناها على منافقي أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ فإنما كذبهم الله تعالى لأن إيمان اليهود بالله ليس بإيمان، لأنهم يعتقدونه جسماً، وقالوا عزيز بن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان، فلما قالوا آمنا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً لأنهم كانوا بقلوبهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل، وباللسان يوهمون المسلمين بهذا الكلام إنا آمنا لله مثل إيمانكم، فلهذا كذبهم الله تعالى فيه. السؤال الثاني : كيف طابق قوله :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٩٩
﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ قولهم :﴿بِاللَّهِ فَإِذَآ﴾ والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل ؟
والجواب : أن من قال فلان ناظر في المسألة الفلانية، فلو قلت إنه لم يناظر في تلك المسألة كنت قد كذبته، أما لو قلت إنه ليس من الناظرين كنت قد بالغت في تذكيبه، يعني أنه ليس من هذا الجنس/ فكيف يظن به ذلك ؟
فكذا ههنا لما قالوا آنا بالله فلو قال الله ما آمنوا كان ذلك تكذيباً لهم أما لما قال :﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ كان ذلك مبالغة في تكذيبهم، ونظيره قوله :﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا ﴾ هو أبلغ من قولهم : وما يخرجون منها. السؤال الثالث : ما المراد باليوم الآخر ؟
الجواب : يجوز أن يراد به / الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم، الذي لا ينقطع له أمد، ويجوز أن يراد به الوقت المحدود من النشور إلى أن تدخل أهل الجنة الجنة. وأهل النار النار ؛ لأنه آخر الأوقات المحدودة، وما بعده فلا حد له.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٢٩٩
٣٠٣
اعلم أن الله تعالى من قبائح المنافقين أربعة أشياء : أحدها : ما ذكره في هذه الآية، وهو أنهم ﴿يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾ فيجب أن يعلم أولاً : ما المخادعة، ثم ثانياً : ما المراد، بمخادعة الله ؟
وثالثاً : أنهم لماذا كانوا يخادعون الله ؟
ورابعاً : أنه ما المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم ؟
المسألة الأولى : اعلم أنه لا شبهة في أن الخديعة مذمومة، والمذموم يجب أن يميز من غيره لكي لا يفعل، وأصل هذه اللفظة الإخفاء، وسميت الخزانة المخدع، والأخدعان عرقان في العنق لأنهما خفيان. وقالوا : خدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً، وطريق خيدع وخداع، إذا كان مخالفاً للمقصد بحيث لا يفطن له، ومنه المخدع. وأما حدها فهو إظهار ما يوهم السلامة والسداد، وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير والتخلص منه، فهو بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين ؛ لأن الدين يوجب الاستقامة والعدولعن الغرور والإساءة، كما يوجب المخالصة لله تعالى في العبادة، ومن هذا الجنس وصفهم المرائي بأنه مدلس إذا أظهر خلاف مراده، ومنه أخذ التدليس في الحديث، لأن الراوي يوهم السماع ممن لم يسمع ؛ وإذا أعلن ذلك لا يقال إنه مدلس.


الصفحة التالية
Icon