قلنا : فيه وجوه : الأول : قال أبو مسلم : هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء ويدعي أنه عن الوحي، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره، وفي قوله : دلالة على ما قلناه. الثاني : أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنهم شاهدوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم. الثالث : قال الأصم : أنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً من عند الله تعالى، إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً. قال القاضي : يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما. قال الداعي إلى الله : هذا غير بعيد لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات، الرابع : معنى الحذر الأمر بالحذر، أي ليحذر المنافقون ذلك. الخامس : أنهم كانوا شاكين في صحة نبوته وما كانوا قاطعين بفسادها. والشاك خائف، فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم، ثم قال صاحب "الكشاف" : المضير في قوله :﴿سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ﴾ و﴿تُنَبِّئُهُم﴾ للمؤمنين، وفي قوله :﴿فِى قُلُوبِهِمْ﴾ للمنافقين ويجوز أيضاً أن تكون الضمائر كلها للمنافقين، لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، ومعنى ﴿تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ أن السورة كأنها تقول لهم في قلوبهم كيت وكيت، يعني أنها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنها تخبرهم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٩٤
ثم قال :﴿قُلْ﴾ وهو أمر تهديد كقوله :﴿الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا ﴾ (التوبة : ١٠٥) ﴿إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ﴾ (التوبة : ٦٤) أي ذلك الذي تحذرونه، فإن الله يخرجه إلى الوجود، فإن الشيء إذا حصل بعد عدمه، فكان فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٩٤
٩٧
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ذكروا في سبب نزول الآية أموراً : الأول : روى ابن عمر أن رجلاً من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوباً ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين، فقال واحد من الصحابة : كذبت ولأنت منافق، ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وكان قد ركب ناقته، فقال يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به الطريق، وكان يقول إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول :"أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" ولا يلتفت إليه وما يزيده عليه. الثاني : قال الحسن وقتادة : لما سار الرسول إلى تبوك قال المنافقون بينهم أتراه يظهر على الشأن ويأخذ حصونها وقصورها هيهات، هيهات، فعند رجوعه دعاهم وقال : أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا : ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نخوض ونلعب. الثالث : روى أن المتخلفين عن الرسول صلى الله عليه وسلّم سألوا عما كانوا يصنعون وعن سبب تخلفهم، فقالوا هذا القول. الرابع : حكينا عن أبي مسلم أنه قال في تفسير قوله :﴿يَحْذَرُ الْمُنَـافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ (التوبة : ٦٤) أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء، فبين تعالى في هذه الآية أنه إذا قيل لهم لم فعلتم ذلك ؟
قالوا : لم نقل ذلك على سبيل الطعن، بل لأجل أنا كنا نخوض ونلعب. الخامس : اعلم أنه لا حاجة في معرفة هذه الآية إلى هذه الروايات فإنها تدل على أنهم ذكروا كلاماً فاسداً على سبيل الطعن والاستهزاء، فلما أخبرهم الرسول بأنهم قالوا ذلك خافوا واعتذروا عنه بأنا إنما قلنا ذلك على وجه اللعب لا على سبيل الجد وذلك قولهم إنما كنا نخوض ونلعب أي ما قلنا ذلك إلا لأجل اللعب، وهذا يدل على أن كلمة "إنما" تفيد الحصر إذ لو لم يكن ذلك لم يلزم من كونهم لاعبين أن لا يكونوا مستهزئين فحينئذ لا يتم هذا العذر.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٩٧
والجواب : قال الواحدي : أصل الخوض الدخول في مائع من الماء والطين، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى، والمعنى : أنا كنا نخوض ونعلب في الباطل من الكلام / كما يخوض الركب لقطع الطريق، فأجابهم الرسول بقوله :﴿وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فرق بين قولك أتستهزىء بالله، وبين قولك أبالله تستهزىء، فالأول يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء، والثاني : يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله، كأنه يقول هب أنك قد تقدم على الاستهزاء ولكن كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله ونظيره قوله تعالى :﴿لا فِيهَا غَوْلٌ﴾ (الصافات : ٤٧) والمقصود : ليس نفي الغول، بل نفي أن يكون خمر الجنة محلاً للغول.


الصفحة التالية
Icon