المسألة الثانية : ذكر المفسرون، أن الطائفتين كانوا ثلاثة، استهزأ اثنان وضحك واحد، فالطائفة الأولى الضاحك، والثانية الهازيان، وقال المفسرون : لما كان ذنب الضاحك أخف لا جرم عفا الله عنه، وذنب الهازيين أغلظ، فلا جرم ما عفا الله عنهما، قال القاضي : هذا بعيد لأنه تعالى حكم على الطائفتين بالكفر، وأنه تعالى لا يعفو عن الكافر إلا بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام، وأيضاً لا يعذب الكافر إلا بعد إصراره على الكفر، أما لو تاب عنه ورجع إلى الإسلام فإنه لا يعذبه، فلما ذكر الله تعالى أنه يعفو عن طائفة ويعذب الأخرى، كان فيه إضمار أن الطائفة التي أخبر أنه يعفو عنهم تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام، وأن الطائفة التي أخبر أنه يعذبهم أصروا على الكفر ولم يرجعوا إلى الإسلام، ولعل ذلك الواحد لما لم يبالغ في الطعن ولم يوافق القوم في الذكر خف كفره، ثم إنه تعالى وفقه للإيمان والخروج عن الكفر، وذلك يدل على أن من خاض في عمل باطل، فليجتهد في التقليل فإنه يرجى له ببركة ذلك التقليل أن يتوب الله عليه في الكل.
المسألة الثالثة : قالوا : ثبت بالروايات أن الطائفتين كانوا ثلاثة، فوجب أن تكون إحدى الطائفتين إنساناً واحداً. قال الزجاج : والطائفة في اللغة أصلها الجماعة، لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة، قال تعالى :﴿الاخِرِا وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآاـاِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النور : ٢) وأقله الواحد، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه، وفي جواز تسمية الشخص الواحد بالطائفة وجوه : الأول : أن من اختار مذهباً ونصره فإنه لا يزال يكون ذاباً عنه ناصراً له، فكأنه بقلبه يطوف عليه ويذب عنه من كل الجوانب، فلا يبعد أن يسمى الواحد طائفة لهذا السبب. الثاني : قال ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول : خرج فلان إلى مكة على الجمال، والله تعالى يقول :﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ﴾ (آل عمران : ١٧٣) يعني نعيم بن مسعود. الثالث : لا يبعد أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفاً، ثم أدخل الهاء عليه للمبالغة، ثم إنه تعالى علل كونه معذباً للطائفة الثانية بأنهم كانوا مجرمين.
واعلم أن الطائفتين لما اشتركتا في الكفر، فقد اشتركتا في الجرم، والتعذيب يختص بإحدى الطائفتين، وتعليل الحكم الخاص بالعلة العامة لا يجوز، وأيضاً التعذيب حكم حاصل في الحال وقوله :﴿كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ يدل على صدور الجرم عنهم في الزمان الماضي، وتعليل الحكم الحاصل في الحال بالعلة المتقدمة لا يجوز، بل كان الأولى أن يقال ذلك بأنهم مجرمون.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٩٧
واعلم أن الجواب عنه أن هذا تنبيه على أن جرم الطائفة الثانية كان أغلظ وأقوى من جرم / الطائفة الأولى، فوقع التعليل بذلك الجرم الغليظ، وأيضاً ففيه تنبيه على أن ذلك الجرم بقي واستمر ولم يزل، فأوجب التعذيب.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٩٧
٩٨
اعلم أن هذا شرح نوع آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم، والمقصود بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة، فقال :﴿الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ ﴾ أي في صفة النفاق، كما يقول الإنسان : أنت مني وأنا منك، أي أمرنا واحد لا مباينة فيه ولما ذكر هذا الكلام ذكر تفصيله فقال :﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ﴾ ولفظ المنكر يدخل فيه كل قبيح، إلا أن الأعظم ههنا تكذيب الرسول ﴿وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ ولفظ المعروف يدخل فيه كل حسن إلا أن الأعظم ههنا الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلّم ويقبضون أيديهم، قيل من كل خير، وقيل عن كل خير واجب من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله وهذا أقرب لأنه تعالى لا يذمهم إلا بترك الواجب ويدخل فيه ترك الإنفاق في الجهاد، ونبه بذلك على تخلفهم عن الجهاد، والأصل في هذا أن المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء. فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده.
ثم قال :﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ واعلم أن هدا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملناه على النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذماً، لأن النسيان ليس في وسع البشر، وأيضاً فهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل، وهو من وجهين : الأول : معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي، فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته، وجاء هذا على أوجه الكلام كقوله :﴿وَجَزَا ؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى : ٤٠) الثاني : النسيان ضد الذكر، فلما تركوا ذكر الله بالعبادة والثناء على الله، ترك الله ذكرهم بالرحمة والإحسان، وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأن من نسي شيئاً لم يذكره، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم.
ثم قال :﴿إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ﴾ أي هم الكاملون في الفسق. والله أعلم.