اعلم أنه تعالى لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم بين أن أولئك الكفار المتقدمين منهم، فذكر هؤلاء الطوائف الستة، فأولهم قوم نوح والله أهلكهم بالإغراق، وثانيهم : عاد والله تعالى أهلكهم بإرسال الريح العقيم عليهم. وثالثهم : ثمود والله أهلكهم بإرسال الصيحة والصاعقة. ورابعهم : قوم إبراهيم أهلكهم الله بسبب سلب النعمة عنهم، وبما روي في الأخبار أنه تعالى سلط البعوضة على دماغ نمروذ. وخامسهم : قوم شعيب وهم أصحاب مدين، ويقال : إنهم من ولد مدين بن إبراهيم، والله تعالى أهلكهم بعذاب يوم الظلة، والمؤتفكات قوم لوط أهلكهم الله بأن جعل عالي أرضهم سافلها، وأمطر عليهم الحجارة، وقال الواحدي : جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة الانقلاب، وتلك القرى ائتفكت بأهلها، أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها، يقال أفكه فائتفك أي قلبه فانقلب، وعلى هذا التفسير فالمؤتفكات صفة القرى، وقيل ائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر.
واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى :﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ وذكر هؤلاء الطوائف الستة وإنما قال ذلك لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة، بأن سمعوا هذه الأخبار من الخلق، وتارة لأجل أن / بلاد هذه الطوائف، وهي بلاد الشام، قريبة من بلاد العرب، وقد بقيت آثارهم مشاهدة، وقوله :﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ﴾ وإن كان في صفة الاستفهام إلا أن المراد هو التقرير، أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام.
ثم قال :﴿أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم﴾ وهو راجع إلى كل هؤلاء الطوائف.
ثم قال :﴿بِالْبَيِّنَـاتِ ﴾ أي بالمعجزات ولا بدَّ من إضمار في الكلام، والتقدير : فكذبوا فعجل الله هلاكهم.
ثم قال :﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ والمعنى : أن العذاب الذي أوصله الله إليهم ما كان ظلماً من الله لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة ومبالغتهم في تكذيب أنبيائهم، بل كانوا ظلموا أنفسهم، قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أنه تعالى لا يصح منه فعل الظلم وإلا لما حسن التمدح به، وذلك دل على أنه لا يظلم ألبتة، وذلك يدل على أنه تعالى لا يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه، ودل على أن فاعل الظلم هو العبد، وهو قوله :﴿وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ وهذا الكلام قد مر ذكره في هذا الكتاب مراراً خارجة عن الإحصاء.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٠٠
١٠١
اعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة، ثم ذكر عقيبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة، ذكر بعده في هذه الآية كون المؤمنين موصوفين بصفات الخير وأعمال البر، على ضد صفات المنافقين، ثم ذكر بعده في هذه الآية أنواع ما أعد الله لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم، فأما صفات المؤمنين فهي قوله :﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾.
فإن قيل : ما الفائدة في أنه تعالى قال في صفة المنافقين و﴿الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍا يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُم نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ﴾ فلم ذكر في المنافقين لفظ ﴿مَنْ﴾ وفي المؤمنين لفظ ﴿أَوْلِيَآءَ﴾.
قلنا : قوله في صفة المنافقين ﴿بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ ﴾ يدل على أن نفاق الأتباع، كالأمر المتفرع على نفاق الأسلاف، والأمر في نفسه كذلك، لأن نفاق الأتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر، وبسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة، أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية، فلهذا السبب قال تعالى في المنافقين :﴿بَعْضُهُم مِّنا بَعْضٍ ﴾ وقال في المؤمنين :﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾.
واعلم أن الولاية ضد العداوة، وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأصل في لفظ الولاية القرب، ويتأكد ذلك بأن ضد الولاية هو العداوة، ولفظة العداوة مأخوذة من عدا الشيء إذا جاوز عنه.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٠١


الصفحة التالية
Icon