السؤال الثاني : هل من شرط هذه المعاهدة أن يحصل التلفظ بها باللسان، أو لا حاجة إلى التلفظ حتى لو نواه بقلبه دخل تحت هذه المعاهدة ؟
الجواب : منهم من قال : كل ما ذكره باللسان أو لم يذكره، ولكن نواه بقلبه فهو داخل في هذا العهد. يروى عن المعتمر بن سليمان قال : أصابتنا ريح شديدة في البحر، فنذر قوم منا أنواعاً من النذور، ونويت أنا شيئاً وما تكلمت به، فلما قدمت البصرة سألت أبي، فقال : يا بني ف به. وقال أصحاب هذا القول إن قوله :﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ﴾ كان شيئاً نووه في أنفسهم، ألا ترى أنه / تعالى قال :﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُمْ﴾ وقال المحققون : هذه المعاهدة مقيدة بما إذا حصل التلفظ بها باللسان، والدليل عليه قوله عليه السلام :"إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسها ولم يتلفظوا به" أو لفظ هذا معناه وأيضاً فقوله تعالى :﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ لئن ءَاتَـاـنَا مِن فَضْلِه لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ إخبار عن تكلمه بهذا القول، وظاهره مشعر بالقول باللسان.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٠
السؤال الثالث : قوله :﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ المراد منه إخراج مال، ثم إن إخراج المال على قسمين قد يكون واجباً، وقد يكون غير واجب. والواجب قسمان : قسم وجب بإلزام الشرع ابتداء، كإخراج الزكاة الواجبة، وإخراج النفقات الواجبة، وقسم لم يجب إلا إذا التزمه العبد من عند نفسه مثل النذور.
إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة، فقوله :﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ هل يتناول الأقسام الثلاثة، أو ليس الأمر كذلك ؟
والجواب : قلنا أما الصدقات التي لا تكون واجبة، فغير داخلة تحت هذه الآية، والدليل عليه أنه تعالى وصفه بقوله :﴿بَخِلُوا بِه ﴾ والبخل في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب، وأيضاً أنه تعالى ذمهم بهذا الترك وتارك المندوب لا يستحق الذم. وأما القسمان الباقيان، فالذي يجب بإلزام الشرع داخل تحت الآية لا محالة، وهو مثل الزكوات والمال الذي يحتاج إلى إنفاقه في طريق الحج والغزو، والمال الذي يحتاج إليه في النفقات الواجبة.
بقي أن يقال : هل تدل هذه الآية على أن ذلك القائل، كان قد التزم إخراج مال على سبيل النذر ؟
والأظهر أن اللفظ لا يدل عليه، لأن المذكور في اللفظ ليس إلا قوله :﴿ لئن ءَاتَـاـنَا مِن فَضْلِه لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ وهذا لا يشعر بالنذر، لأن الرجل قد يعاهد ربه في أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة إن وسع الله عليه، فدل هذا على أن الذي لزمهم إنما لزمهم بسبب هذا الالتزام، والزكاة لا تلزم بسبب هذا الالتزام، وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحولان الحول.
قلنا : قوله :﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ لا يوجب أنهم يفعلون ذلك على الفور، لأن هذا إخبار عن إيقاع هذا الفعل فس المستقبل، وهذا القدر لا يوجب الفور، فكأنهم قالوا : لنصدقن في وقت كما قالوا ﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ أي في أوقات لزوم الصلاة/ فخرج من التقدير الذي ذكرناه أن الداخل تحت هذا العهد، إخراج الأموال التي يجب إخراجها بمقتضى إلزام الشرع ابتداء، ويتأكد ذلك بما روينا أن هذه الآية إنما نزلت في حق من امتنع من أداء الزكاة، فكأنه تعالى بين من حال هؤلاء المنافقين أنهم كما ينافقون الرسول والمؤمنين، فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه عليه، ولا يقومون بما يقولون / والغرض منه المبالغة في وصفهم بالنفاق، وأكثر هذه الفصول من كلام القاضي.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٠
السؤال الرابع : ما المراد من الفضل في قوله :﴿ لئن ءَاتَـاـنَا مِن فَضْلِه ﴾.
والجواب : المراد إيتاء المال بأي طريق كان، سواء كان بطريق التجارة، أو بطريق الاستنتاج أو بغيرهما.
السؤال الخامس : كيف اشتقاق ﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾.
الجواب : قال الزجاج : الأصل لنتصدقن. ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها. قال الليث : المصدق المعطي والمتصدق السائل. قال الأصمعي والفراء : هذا خطأ فالمتصدق هو المعطي قال تعالى :﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ﴾.
السؤال السادس : ما المراد من قوله :﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ﴾.
الجواب : الصالح ضد المفسد، والمفسد عبارة عن الذي بخل بما يلزمه في التكليف فوجب أن يكون الصالح عبارة عما يقوم بما يلزمه في التكليف. قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ثعلبة قد عاهد الله تعالى لئن فتح الله عليه أبواب الخير ليصدقن وليجعن، وأقول التقييد لا دليل عليه. بل قوله :﴿لَنَصَّدَّقَنَّ﴾ إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة وقوله :﴿وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق.
ثم قال تعالى :﴿فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُم مِّن فَضْلِه بَخِلُوا بِه وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾ وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة :
الصفة الأولى : البخل وهو عبارة عن منع الحق.