المسألة الرابعة :﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه ﴾ يدل على أن ذلك المعاهد مات منافقاً، وهذا الخبر وقع مخبره مطابقاً له، فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي صلى الله عليه وسلّم بصدقته فقال : إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك، وبقي على تلك الحالة، وما قبل صدقته أحد حتى مات، فدل على أن مخبر هذا الخبر وقع موافقاً، فكان إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٠
المسألة الخامسة : قال الجبائي : إن المشبهة تمسكوا في إثبات رؤية الله تعالى بقوله :﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَه سَلَـامٌ ﴾ قال واللقاء ليس عبارة عن الرؤية/ بدليل أنه قال في صفة المنافقين :﴿إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه ﴾ وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه، فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. قال : والذي يقويه قوله عليه السلام :"من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا. والقاضي استحسن هذا الكلام. وأقول : أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة ؟
وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية، وفي هذا الخبر لدليل منفصل، فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور. ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل، لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل، فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك فإن قال هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية، وذلك ممنوع. فنقول : لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ومن رأى شيئاً فقد وصل إليه فكانت / الرؤية لقاء، كما أن الإدراك هو البلوغ. قال تعالى :﴿قَالَ أَصْحَـابُ مُوسَى ا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ (الشعراء : ٦١) أي لملحقون، ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا، ثم نقول : لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية، بل المقصود أنه تعالى ﴿فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَه ﴾ أي حكمه وقضاءه، وهو كقول الرجل ستلقى عملك غداً، أي تجازى عليه، قال تعالى :﴿بِمَآ أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ والمعنى : أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب.
ثم قال تعالى :﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُمْ﴾ والسر ما ينطوي عليه صدورهم، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم، وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما، ونظيره قوله تعالى :﴿وَقَرَّبْنَـاهُ نَجِيًّا﴾ (مريم : ٥٢) وقوله :﴿فَلَمَّا اسْتَيْـاَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ﴾ (يوسف : ٨٠) وقوله :﴿فَلا تَتَنَـاجَوْا بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَـاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ (المجادلة : ٩) وقوله :﴿إِذَا نَـاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاـاكُمْ صَدَقَةً ﴾ (المجادلة : ١٢).
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٠
إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى، فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال : ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم يكفي يتجرؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر، وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر ؟
ثم قال :﴿وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ﴾ والعلام مبالغة في العالم، والغيب ما كان غائباً عن الخلق. والمراد أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء. فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات، فيجب كونه عالماً بما في الضمائر والسرائر، فكيف يمكن الأخفاء منه ؟
ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول عيسى عليه السلام :﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ﴾ (المائدة : ١١٦) فأما وصف الله بالعلامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق الله محال.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٠
١١١


الصفحة التالية
Icon