المسألة الخامسة : قال المتأخرون من أهل التفسير، السبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جميع السبعة عشر مرات، والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض والبحار والأقاليم والنجوم والأعضاء، هو هذا العدد. وقال بعضهم : هذا العدد إنما خص بالذكر ههنا لأنه روى أن النبي عليه السلام كبر على حمزة سبعين تكبيرة، فكأنه قيل :﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه ا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ﴾ (البقرة : ٢٦١) وقال عليه السلام :"الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة" فلما ذكر الله تعالى هذا العدد في معرض التضعيف لرسوله صار أصلاً فيه.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٣
١١٤
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين، وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، والمخلف المتروك ممن مضى.
فإن قيل : إنهم احتالوا حتى تخلفوا، فكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون.
والجواب من وجوه : الأول : أن الرسول عليه السلام منع أقواماً من الخروج معه لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون، فهؤلاء كانوا مخلفين لا متخلفين. والثاني : أن أولئك المتخلفين صاروا مخلفين في الآية التي تأتي بعد هذه الآية، وهي قوله :﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَـاْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تُقَـاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا ﴾ (التوبة : ٨٣) فلما منعهم الله تعالى من الخروج معه صاروا بهذا السبب مخلفين. الثالث : أن من يتخلف عن الرسول عليه السلام بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين يوصف بأنه مخلف من حيث لم ينهض فبقي وأقام. وقوله :﴿بِمَقْعَدِهِمْ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد المدينة، فعلى هذا المقعد اسم للمكان. وقال مقاتل :﴿بِمَقْعَدِهِمْ﴾ بقعودهم وعلى هذا، هو اسم للمصدر. وقوله :﴿خِلَـافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ فيه قولان : الأول : وهو قول قطرب والمؤرج والزجاج، يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا. قالوا : وهو منصوب لأنه مفعول له، والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والثاني : قال الأخفش : إن ﴿خِلَـافَ﴾ بمعنى خلف، وأن يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه بعد رسول الله، ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ ﴿خِلَـافَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ وعلى هذا القول، الخلاف اسم للجهة المعينة كالخلف، والسبب فيه أن الإنسان متوجه إلى قدامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قدامه في كونها جهة متوجهاً إليها، وخلاف بمعنى خلف مستعمل أنشد أبو عبيدة للأحوص :
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٤
عقب الربيع خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصيرا
وقوله :﴿وَكَرِهُوا أَن يُجَـاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الذهاب إلى الغزو.
واعلم أن الفرح بالإقامة على كراهة الذهاب إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد، وأيضاً لعل المراد أنه مال طبعه إلى الإقامة لأجل إلفه تلك البلدة واستئناسه بأهله وولده وكره الخروج إلى الغزو لأنه تعريض للمال والنفس للقتل والإهدار، وأيضاً مما منعهم من ذلك الخروج شدة الحر في وقت خروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو المراد من قوله :﴿وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِى الْحَرِّ ﴾.
فأجاب الله تعالى عن هذا السبب الأخير بقوله :﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ أي إن بعد هذه الدار داراً أخرى، وإن بعد هذه الحياة حياة أخرى، وأيضاً هذه مشقة منقضية، وتلك مشقة باقية، وروى صاحب "الكشاف" لبعضهم :
مسرة أحقاب تلقيت بعدها
مساءة يوم أنها شبه أنصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب
ثم قال تعالى :﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، والدليل عليه قوله بعد ذلك :﴿جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ومعنى الآية أنهم، وإن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم، فهذا قليل لأن الدنيا بأسرها قليلة، وأما حزنهم وبكاؤهم في الآخرة فكثير، لأنه عقاب دائم لا ينقطع، والمنقطع بالنسبة إلى الدائم قليل، فلهذا المعنى قال :﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ قال الزجاج : قوله :﴿جَزَآءُ﴾ مفعول له، والمعنى وليبكوا لهذا الغرض. وقوله :﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أي في الدنيا من النفاق واستدلال المعتزلة بهذه الآية على كون العبد موجداً لأفعاله، وعلى أنه تعالى لو أوصل الضرر إليهم ابتداء لا بواسطة كسبهم لكان ظالماً، مشهور، وقد تقدم الرد عليهم قبل ذلك مراراً تغني عن الإعادة.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١١٤
١١٥


الصفحة التالية
Icon