ثم قال تعالى :﴿وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ومعناه ظاهر، ولما بين في الآية أنهم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم، بين أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم، ثم إنه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم، فقال :﴿فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ﴾ والمعنى : أنكم إن رضيتم عنهم مع أن الله لا يرضى عنهم، كانت إرادتكم مخالفة لإرادة الله، وأن ذلك لا يجوز. وأقول : إن هذه المعاني مذكورة في الآيات السالفة، وقد أعادها الله ههنا مرة أخرى، وأظن أن الأول خطاب مع المنافقين الذين كانوا في المدينة، وهذا خطاب مع المنافقين من الأعراب وأصحاب البوادي، ولما كانت طرق المنافقين متقاربة سواء كانوا من أهل الحضر أو من أهل البادية، لا جرم كان الكلام معهم على مناهج متقاربة.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢٤
١٢٦
اعلم أن هذه الآية تدل على صحة ما ذكرنا من أنه تعالى إنما أعاد هذه الأحكام، لأن المقصود منها مخاطبة منافقي الأعراب، ولهذا السبب بين أن كفرهم ونفاقهم أشد وجهلهم بحدود ما أنزل الله أكمل، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال العلماء من أهل اللغة، يقال : رجل عربي. إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب. كما تقول مجوسي ويهودي، ثم يحذف ياء النسبة في الجمع، فيقال : المجوس واليهود، ورجل أعرابي، بالألف إذا كان بدوياً، يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي : فرح، والعربي إذا قيل له : يا أعرابي، غضب له، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعراب، والذي يدل على الفرق وجوه : الأول : أنه عليه السلام قال :"حب العرب من الإيمان" وأما الأعراب فقد ذمهم الله في هذه الآية. والثاني : أنه لا يجوز أن يقال : للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب، وهم متقدمون في مراتب الدين على الأعراب. قال عليه السلام :"لا تؤمن امرأة رجلاً ولا فاسق مؤمناً ولاأعرابي مهاجراً" الثالث : قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسمعيل نشأوا بعربة، وهي من تهامة. فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم، لأنهم إنما تولدوا من أولاد إسمعيل وقيل : سموا بالعرب، لأنه ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، ولا شك أن اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة، ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال : حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة يونان في أفئدتهم. وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم، وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم.
المسألة الثانية : من الناس من قال : الجمع المحلى بالألف واللام الأصل فيه أن ينصر إلى / المعهود السابق، فإن لم يوجد المعهود السابق، حمل على الاستغراق للضرورة. قالوا : لأن صيغة الجمع يكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها، والألف واللام للتعريف، فإن حصل جمع هو معهود سابق وجب الانصراف إليه، وإن لم يوجد فحينئذ يحمل على الاستغراق دفعاً للإجمال.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٢٦
قالوا إذا ثبت هذا فنقول : قوله :﴿الاعْرَابُ﴾ المراد منه جمع معينون من منافقي الأعراب، كانوا يوالون منافقي المدينة فانصرف هذا اللفظ إليهم.
المسألة الثالثة : أنه تعالى حكم على الأعراب بحكمين :
الحكم الأول
أنهم أشد كفراً ونفاقاً، والسبب فيه وجوه : الأول : أن أهل البدو يشبهون الوحوش. والثاني : استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم، والثالث : أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب، ولا ضبط ضابط فنشاؤا كما شاؤوا، ومن كان كذلك خرج على أشد الجهات فساداً. والرابع : أن من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبياناته الشافية، وتأديباته الكاملة، كيف يكون مساوياً لمن لم يؤاثر هذا الخير، ولم يسمع خبره. والخامس : قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية.
الحكم الثاني
قوله :﴿وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه ﴾ وقوله : أي أولى وأحق، وفي الآية حذف، والتقدير : وأجدر بأن لا يعلموا. وقيل في تفسير حدود ما أنزل الله مقادير التكاليف والأحكام. وقيل : مراتب أدلة العدل والتوحيد والنبوة والمعاد ﴿أَيْدِيهِم وَاللَّهُ عَلِيمُ ﴾ بمافي قلوب خلقه ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما فرض من فرائضه.


الصفحة التالية
Icon