فكذا المرض ههنا إنما هو الفتور في النية، وذلك لأنهم في أول الأمر كانت قلوبهم قوية على المحاربة والمنازعة وإظهار الخصومة، ثم انكسرت شوكتهم فأخذوا في النفاق بسبب ذلك الخوف والإنكسار، فقال تعالى :﴿فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ أي زادهم ذلك الانكسار والجبن والضعف، ولقد حفق الله تعالى ذلك بقوله :﴿وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الحشر : ٢) الخامس : أن يحمل المرض على ألم القلب، وذلك أن الإنسان إذا صار مبتلى بالحسد والنفاق ومشاهدة المكروه، فإذا دام به ذلك فربما صار ذلك سبباً لغير مزاج القلب وتألمه، وحمل اللفظ على هذا الوجه حمل له على حقيقته، فكان أولى من سائر الوجوه. أما قوله :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ قال صاحب "الكشاف" : ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع، ووصف العذاب به فهو نحو قوله : تحية بينهم ضرب وجيع. وهذا على طريقة قولهم : جد جده، والألم في الحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد، أما قوله :﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ ففيه أبحاث. أحدها : أن الكذب هو الخبر عن شيء على خلاف ما هو به والجاحظ لا يسميه كذباً إلا إذا علم المخبر كون المخبر عنه مخالفاً للخبر، وهذا الآية حجة عليه. وثانيها : أن قوله :﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُا بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ صريح في أن كذبهم علة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً فأما ما روي أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. وثالثها : في هذه الآية قراءتان. إحداهما :﴿يَكْذِبُونَ﴾ والمراد بكذبهم قوله :﴿بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ وَمَا﴾. والثانية :"يكذبون" من كذبه الذي هو نقيض صدقه، ومن كذب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل صدق.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٣٠٣
٣٠٦
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين، والكلام فيه من وجوه : أحدها : أن يقال : من القائل ﴿لا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾ ؟
وثانيها : ما الفساد في الأرض ؟
وثالثها : من القائل :﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ؟
ورابعها : ما الصلاح ؟
أما المسألة الأولى : فمنهم من قال : ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال : هو الرسول عليه السلام، ومنهم من قال بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل، ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة، وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك، فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين، وإما أن يقال : إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم :﴿لا تُفْسِدُوا ﴾ فإن قيل : أفما كانوا يخبرون الرسول عليه السلام بذلك ؟
قلنا : نعم، إلا أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه كما أخبر تعالى عنهم في قوله :﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ﴾ (التوبة : ٧٤) وقال :﴿يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ﴾ (التوبة : ٩٦).
المسألة الثانية : الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح فأما كونه فساداً في الأرض فإنه يفيد أمراً زائداً، وفيه ثلاثة أقوال : أحدها : قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى، وتقريره ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفساداً في الأرض، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وسكنت الفتن، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب، ولذلك قال تعالى :﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ﴾ (محمد : ٢٢) نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به، وثانيها : أن يقال ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول صلى الله عليه وسلّم وضعف أنصاره، فكان ذلك يجرىء الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة، وفيه فساد عظيم في الأرض. وثالثها : قال الأصم : كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه، وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠٦