الوجه الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد الأمراض في الدنيا، وعذاب الآخرة، وذلك أن مرض المؤمن يفيده تكفير السيئات، ومرض الكافر يفيده زيادة الكفر وكفران النعم.
الوجه الثاني : روى السدي عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قام خطيباً يوم الجمعة فقال :"اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق" فأخرج من المسجد ناساً وفضحهم فهذا هو العذاب الأول، والثاني عذاب القبر.
والوجه الثالث : قال مجاهد : في الدنيا بالقتل والسبي وبعد ذلك بعذاب القبر.
والوجه الرابع : قال قتادة بالدببيلة وعذاب القبر، وذلك أن النبي عليه السلام أسر إلى حذيفة اثني عشر رجلاً من المنافقين، وقال : ستة يبتليهم الله بالدبيلة سراج من نار يأخذ أحدهم حتى يخرج من صدره، وستة يموتون موتاً.
والوجه الخامس : قال الحسن : يأخذ الزكاة من أموالهم، وعذاب القبر.
والوجه السادس : قال محمد بن إسحق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسنة، ثم عذابهم في القبور.
والوجه السابع : أحد العذابين ضرب الملائكة الوجوه والأدبار. والآخر عند البعث، يوكل بهم عنق النار. والأولى أن يقال مراتب الحياة ثلاثة : حياة الدنيا، وحياة القبر، وحياة القيامة، فقوله :﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ المراد منه عذاب الدنيا بجميع أقسامه، وعذاب القبر. وقوله :﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ المرا دمنه العذاب في الحياة الثالثة، وهي الحياة في القيامة.
ثم قال تعالى في آخر الآية :﴿ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ يعني النار المخلدة المؤبدة.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٣١
١٣٩
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله :﴿وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ فيه قولان : الأول : أنهم قوم من المنافقين. تابوا عن النفاق. والثاني : أنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك، لا للكفر والنفاق، لكن للكسل، ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا، واحتج القائلون بالقول الأول بأن قوله :﴿وَءَاخَرُونَ﴾ عطف على قوله :﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الاعْرَابِ مُنَـافِقُونَ ﴾ والعطف يوهم التشريك إلا أنه / تعالى وفقهم حتى تابوا، فلما ذكر الفريق الأول بالمرود على النفاق والمبالغة فيه. وصف هذه الفرقة بالتوبة والإقلاع عن النفاق.
المسألة الثانية : روي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام، وقيل : كانوا عشرة. فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لما بلغهم ما نزل من المتخلفين فأيقنوا بالهلاك، وأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت هذه عادته، فلما قدم من سفره ورآهم موثقين، سأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله هو الذي يحلهم، فقال : وأنا أقسم أني لا أحلهم حتى أومر فيهم، فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم، فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها، فتصدق بها وطهرنا، فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزل قوله :﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ الآية.
المسألة الثالثة : قوله :﴿اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ قال أهل اللغة : الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء عن معرفة، ومعناه أنهم أقروا بذنبهم، وفيه دقيقة، كأنه قيل لم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الباطلة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئسما فعلوا وأظهروا الندامة وذموا أنفسهم على ذلك التخلف.
فإن قيل : الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا ؟
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٣٩
قلنا : مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة، فأما إذا اقترن به الندم على الماضي، والعزم على تركه في المستقبل، وكان هذا الندم والتوبة لأجل كونه منهياً عنه من قبل الله تعالى، كان هذا المجموع توبة، إلا أنه دل الدليل على أن هؤلاء قد تابوا بدليل قوله تعالى :﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾ والمفسرون قالوا : إن عسى من الله يدل على الوجوب.
ثم قال تعالى :﴿خَلَطُوا عَمَلا صَـالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا﴾ وفيه بحثان :
البحث الأول : في هذا العمل الصالح وجوه : الأول : العمل الصالح هو الاعتراف بالذنب والندامة عليه والتوبة منه، والسيء هو التخلف عن الغزو. والثاني : العمل الصالح خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات والسيء هو تخلفهم عن غزوة تبوك. والثالث : أن هذه الآية نزلت في حق المسلمين كان العمل الصالح إقدامهم على أعمال البر التي صدرت عنهم.


الصفحة التالية
Icon