المسألة الخامسة : كنت قد ذكرت لطائف في قول بعضهم لبعض سلام عليكم وهي غير لائقة بهذا الموضع إلا أني رأيت أن أكتبها ههنا لئلا تضيع، فقلت : إذا قال الرجل لغيره سلام عليكم. فقوله : سلام عليكم مبتدأ وهو نكرة، وزعموا أن جعل النكرة مبتدأ لا يجوز، قالوا لأن الأخبار إنما يفيد إذا أخير على المعلوم بأمر غير معلوم، إلا أنهم قالوا : النكرة إذا كانت موصوفة حسن جعلها مبتدأ كما في قوله تعالى :﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾ (البقرة : ٢٢١).
إذا عرفت هذا فههنا وجهان : الأول : أن التنكير يدل على الكمال، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواةٍ﴾ (البقرة : ٩٦) والمعنى : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة دائمة كاملة غير منقطعة.
إذا ثبت هذا فقوله :"سلام" لفظة منكرة، فكان المراد منه سلام كامل تام، وعلى هذا التقدير : فقد صارت هذه النكرة موصوفة، فصح جعلها مبتدأ، وإذا كان كذلك فحينئذ يحصل الخبر وهو قوله :"عليكم" والتقدير : سلام كامل تام عليكم. والثاني : أن يجعل قوله :"عليكم" صفة لقوله :"سلام" فيكون مجموع قوله :"سلام عليكم" مبتدأ ويضمر له خبر، والتقدير : سلام عليكم واقع كائن حاصل، وربما كان حذف الخبر أدل على التهويل والتفخيم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٣٩
إذا عرفت هذا فنقول : إنه عند الجواب يقلب هذا الترتيب فيقال وعليكم السلام/ والسبب فيه ما قاله سيبويه أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى، فلما قال وعليكم السلام دل على أن اهتمام هذا المجيب بشأن ذلك القائل شديد كامل، وأيضاً فقوله :"وعليكم السلام" يفيد الحصر، فكأنه يقول إن كنت قد أوصلت السلام إلي فأنا أزيد عليه وأجعل السلام مختصاً بك ومحصوراً فيك امتثالاً لقوله تعالى :﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ ﴾ (النساء : ٨٦) ومن لطائف قوله :"سلام عليكم" أنها أكمل من قوله :"السلام عليك" وذلك لأن قوله :"سلام عليك" معناه : سلام كامل / تام شريف رفيع عليك. وأما قوله : السلام عليك، فالسلام لفظ مفرد محلى بالألف واللام، وأنه لا يفيد إلا أصل الماهية، واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية، فكان قوله :"سلام عليك" أكمل من قوله :"السلام عليك" ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما جاء لفظ "السلام" من الله تعالى ورد على سبيل التنكير، كقوله :﴿وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِنَا فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ ﴾ (الأنعام : ٥٤) وقوله :﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ا ﴾ (النمل : ٥٩) وفي القرآن من هذا الجنس كثير. أما لفظ "السلام" بالألف واللام، فإنما جاء من الأنبياء عليهم السلام، كقول موسى عليه السلام :﴿قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَا وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ (طه : ٤٧) وأما في سورة مريم فلما ذكر الله يحيى عليه السلام قال :﴿وَسَلَـامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ﴾ (مريم : ١٥) وهذا السلام من الله تعالى، وفي قصة عيسى عليه السلام قال :﴿وَالسَّلَـامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ﴾ (مريم : ٣٣) وهذا كلام عيسى عليه السلام. فثبت بهذه الوجوه أن قوله :"سلام عليك" أكمل من قوله :"السلام عليك" فلهذا السبب اختار الشافعي رحمه الله في قراءة التشهد قوله : سلام عليك أيها النبي على سبيل التنكير، ومن لطائف السلام أنه لا شك أن هذا العالم معدن الشرور والآفات والمحن والمخالفات، واختلف العلماء الباحثون عن أسرار الأخلاق، أن الأصل في جبلة الحيوان الخير أو الشر ؟
فمنهم من قال : الأصل فيها الشر، وهذا كالإجماع المنعقد بين جميع أفراد الإنسان، بل نزيد ونقول : إنه كالإجماع المنعقد بين جميع الحيوان، والدليل عليه أن كل إنسان يرى إنساناً يعدو إليه مع أنه لا يعرفه، فإن طبعه يحمله على الاحتراز عنه والتأهب لدفعه، ولولا أن طبعه يشهد بأن الأصل في الإنسان الشر، وإلا لما أوجبت فطرة العقل التأهب لدفع شر ذلك الساعي إليه، بل قالوا : هذا المعنى حاصل في كل الحيوانات، فإن كل حيوان عدا إليه حيوان آخر فر ذلك الحيوان الأول واحترز منه، فلو تقرر في طبعه أن الأصل في هذا الواصل هو الخير لوجب أن يقف، لأن أصل الطبيعة يحمل على الرغبة في وجدان الخير، ولو كان الأصل في طبع الحيوان أن يكون خيره وشره على التعادل والتساوي، وجب أن يكون الفرار والوقوف متعادلين، فلما لم يكن الأمر كذلك بل كل حيوان نوجه إليه حيوان مجهول الصفة عند الأول، فإن ذلك الأول يحترز عنه بمجرد فطرته الأصلية، علمنا أن الأصل في الحيوان هو الشر.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٣٩


الصفحة التالية
Icon