المسألة الأولى : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الغيب ما يسرونه، والشهادة ما يظهرونه. وأقول لا يبعد أن يكون الغيب ما حصل في قلوبهم من الدواعي والصوارف، والشهادة الأعمال / التي تظهر على جوارحهم، وأقول أيضاً مذهب حكماء الإسلام أن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسات، وعندهم أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول. فوجب كون العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشهادة، فلهذا السبب أينما جاء هذا الكلام في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة.
المسألة الثانية : إن حملنا قوله تعالى :﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ على الرؤية، فحينئذ يظهر أن معناه مغاير لمعنى قوله :﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ وإن حملنا تلك الرؤية على العلم أو على إيصال الثواب جعلنا قوله :﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ جارياً مجرى التفسير لقوله :﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ معناه : بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدنيا، أو بإظهار أضدادها. وقوله :﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ معناه : ما يظره في القيامة من حال الثواب والعقاب.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٤٤
ثم قال :﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ والمعنى يعرفكم أحوال أعمالكم ثم يجازيكم عليها، لأن المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف. ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم، فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر، وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر. وقال حكماء الإسلام، المراد من قوله تعالى :﴿فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ الإشارة إلى الثواب الروحاني، وذلك لأن العبد إذا تحمل أنواعاً من المشاق في الأمور التي أمره بها مولاه، فإذا علم العبد أن مولاه يرى كونه متحملاً لتلك المشاق، عظم فرحه وقوي ابتهاجه بها، وكان ذلك عنده ألذ من الخلع النفيسة والأموال العظيمة.
وأما قوله :﴿وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ﴾ فالمراد منه تعريف عقاب الخزي والفضيحة. ومثاله أن العبد الذي خصه السلطان بالوجوه الكثيرة من الإحسان إذا أتى بأنواع كثيرة من المعاصي، فإذا حضر ذلك العبد عند ذلك السلطان وعدد عليه أنواع قبائحه وفضائحه، قوي حزنه وعظم غمه وكملت فضيحته، وهذا نوع من العذاب الروحاني، وربما رضي العاقل بأشد أنواع العذاب الجسماني حذراً منه. والمقصود من هذه الآية تعريف هذا النوع من العقاب الروحاني نسأل الله العصمة منه ومن سائر العذاب.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٤٤
١٤٦
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة ونافع والكسائي وحفص عن عاصم مرجون بغير همز والباقون بالهمز وهما لغتان. أرجأت الأمر وأرجيته بالهمز وتركه، إذا أخرته. وسميت المرجئة بهذا الاسم لأنهم لا يجزمون القول بمغفرة التائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة الله تعالى. وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى قسم المتخلفين عن الجهاد ثلاثة أقسام :
القسم الأول : المنافقون الذين مردوا على النفاق.
القسم الثاني : التائبون وهم المرادون بقوله :﴿وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ﴾ وبين تعالى أنه قبل توبتهم.


الصفحة التالية
Icon