المسألة الثانية : قال الواحدي : قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير رضي الله عنهم : الذين اتخذوا مسجداً ضراراً كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً يضارون به مسجد قباء، وأقول إنه تعالى وصفه بصفات أربعة :
الصفة الأولى : ضراراً، والضرار محاولة الضر، كما أن الشقاق محاولة ما يشق. قال الزجاج : وانتصب قوله :﴿ضِرَارًا﴾ لأنه مفعول له، والمعنى : اتخذوه للضرار ولسائر الأمور المذكورة بعده، فلما حذفت اللام اقتضاه الفعل فنصب. قال وجائز أن يكون مصدراً محمولاً على المعنى، والتقدير : اتخذوا مسجداً ضروا به ضراراً.
والصفة الثانية : قوله :﴿وَكُفْرًا﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد به ضرراً للمؤمنين وكفراً بالنبي عليه السلام، وبما جاء به. وقال غيره اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبي عليه السلام والإسلام.
الصفة الثالثة : قوله :﴿وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، وذلك لأن المنافقين قالوا نبني مسجداً فنصلي فيه، ولا نصلي خلف محمد، فإن أتانا فيه صلينا معه. وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة، وبطلان الألفة.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٤٧
والصفة الرابعة : قوله :﴿وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَه ﴾ قالوا : المراد أبو عامر الراهب، والد حنظلة الذي غسلته الملائكة، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفاسق، وكان قد تنصر في الجاهلية، وترهب وطلب العلم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاداه، لأنه زالت رياسته / وقال : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشأم، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجداً فإن ذاهب إلى قيصر، وآت من عنده بجند، فأخرج محمداً وأصحابه. فبنوا هذا المسجد، وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلى بهم في ذلك المسجد. قال الزجاج : الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة : الإرصاد الانتظار مع العداوة. وقال الأكثرون : الإرصاد، الأعداد. قال تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ (الفجر : ١٤) وقوله :﴿مِن قَبْلُ ﴾ يعني من قبل بناء مسجد الضرار، ثم إنه تعالى لما وصف هذا المسجد بهذه الصفات الأربعة قال :﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَآ إِلا الْحُسْنَى ﴾ أي ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز، عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية.
ثم قال تعالى :﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ﴾ والمعنى : أن الله تعالى أطلع الرسول على أنهم حلفوا كاذبين.
واعلم أن قوله :﴿وَالَّذِينَ﴾ محله الرفع على الابتداء وخبره محذوف، أي وممن ذكرنا الذين.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٤٧
١٥٠
قال المفسرون : إن المنافقين لما بنوا ذلك المسجد لتلك الأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك، قالوا : يا رسول الله بنينا مسجداً لذي العلة والليلة الممطرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال عليه السلام : إني على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه، فلما رجع من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية، فدعا بعض القوم وقال : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وخربوه، ففعلوا ذلك وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقي فيها الجيف والقمامة. وقال الحسن : هم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل عليه السلام لا تقم فيه أبداً.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله :﴿لا تَقُمْ فِيهِ﴾ نهى له عليه السلام عن أن يقوم فيه. قال ابن جريج : فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين. ثم إنه تعالى بين العلة في هذا النهي، وهي أن أحد المسجدين لما كان مبنياً على التقوى من أول يوم، وكانت الصلاة في مسجد آخر تمنع من الصلاة في مسجد التقوى، كان من المعلوم بالضرورة أن يمنع من الصلاة في المسجد الثاني.
فإن قيل : كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني.


الصفحة التالية
Icon