والصفة الثانية : قوله تعالى :﴿الْعَـابِدُونَ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم. وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة، وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم الله تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم، ولابن عباس رضي الله عنهما : أن يقول إن معرفة الله والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب، وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية. قال الحسن :﴿الْعَـابِدُونَ﴾ هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء. وقال قتادة : قوم أخدوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
الصفة الثالثة : قوله :﴿الْحَـامِدُونَ﴾ وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم/ وقد ذكرنا التسبيح والتهليل والتحميد صفة الذين كانوا يعبدون الله قبل خلق الدنيا، وهم الملائكة، لأنه تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك، وهو صفة الذين يعبدون الله بعد خراب الدنيا. لأنه تعالى أخبر عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله تعالى، وهو ﴿دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ ﴾ (يونس : ١٠) وهم المرادون بقوله :.
الصفة الرابعة : قوله :﴿الْحَـامِدُونَ السَّـا اـاِحُونَ﴾ وفيه أقوال :
القول الأول : قال عامة المفسرين هم الصائمون. وقال ابن عباس : كل ما ذكر في القرآن من السياحة، فهو الصيام. وقال النبي عليه الصلاة والسلام :"سياحة أمتي الصيام" وعن الحسن : أن هذا صوم الفرض. وقيل هم الذين يديمون الصيام، وفي المعنى الذي لأجله حسن تفسير السائح بالصائم، وجهان : الأول : قال الأزهري : قيل للصائم سائح، لأن الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه، كان ممسكاً عن الأكل، والصائم يمسك عن الأكل، فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً. الثاني : أن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم يستمر على فعل الطاعة، وترك المشتهي، وهو الأكل والشرب والوقاع، وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه أبواب الشهوات، انفتحت عليه / أبواب الحكمة، وتجلت له أنوار عالم الجلال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام :"من أخلص لله أربعين صباحاً، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام، ومن درجة إلى درجة، فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٥٧
والقول الثاني : أن المراد من السائحين طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم، وهو قول عكرمة، وعن وهب بن منبه : كانت السياحة في بني إسرائيل، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئاً، فقال : يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي، فعند ذلك أراه الله ما أرى السائحين وأقول للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس، فلا بد له من الصبر عليها، وقد ينقطع زاده، فيحتاج إلى التوكل على الله، وقد يلقى أفاضل مختلفين، فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة، وقد يلقى الأكابر من الناس، فيستحقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة، فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته، وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين.
والقول الثالث : قال أبو مسلم :﴿السَّـا اـاِحُونَ﴾ السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح، سيح الماء الجاري، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً، وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات.
الصفة الخامسة والسادسة : قوله :﴿الراَّكِعُونَ السَّـاجِدُونَ﴾ والمراد منه إقامة الصلوات. قال القاضي : وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة، وهو قيامه وقعوده. والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها. فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم.
الصفة السابعة والثامنة : قوله :﴿الامِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف/ والنهي عن المنكر ؛ كتاب كبير مذكور في علم الأصول. فلا يمكن إيراده ههنا. وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد، لأن رأس المعروف الإيمان بالله، ورأس المنكر الكفر بالله. / والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان، والزجر عن الكفر. والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما دخول الواو في قوله :﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ ففيه وجوه :


الصفحة التالية
Icon