المسألة الثانية : إن هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى :﴿وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ﴾ واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم خلفين وذكروا وجوهاً : أحدها : أنه ليس المراد أن هؤلاء أمروا بالتخلف، أو حصل الرضا من الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً فيقول : بموضع كذا لا يريد به أنه أمره بالتخلف بل لعله نهاه عنه وإنما يريد أنه تخلف عنه. وثانيها : لا يمتنع أن هؤلاء الثلاثة كانوا على عزيمة الذهاب إلى الغزو فأذن لهم الرسول عليه الصلاة والسلام قدر ما يحصل الآلات والأدوات فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل فصح أن يقال : خلفهم الرسول. وثالثها : أنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله :﴿وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ﴾ فالمراد من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة عن الطائفة الأولى. قال كعب بن مالك وهو أحد هؤلاء الثلاثة : قول الله تعالى في حقنا :﴿وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ ليس من تخلفنا إنما هو تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا ليشير به إلى قوله :﴿وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ﴾.
المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : قرىء ﴿خُلِّفُوا ﴾ أي خلفوا الغازين بالمدينة، أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وفسدوا من الخالفة وخلوف الفم، وقرأ جعفر الصادق وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٦٦
المسألة الرابعة : هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع، وللناس في هذه القصة قولان :
القول الأول : أنهم ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الحسن : كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم فقال : يا أرضاه ما خلفني عن رسول الله إلا أمرك، إذهبي فأنت في سبيل الله فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وفعل، وكان للثاني أهل فقال : يا أهلاه ما خلفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا أمرك فلأكابدن المفاوز حتى أصل إليه وفعل، والثالث : ما كان له مال ولا أهل فقال : مالي سبب إلا الضن بالحياة والله لأكابدن المفاوز حتى / أصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلحقوا بالرسول صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى ﴿تَعْمَلُونَ * وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ﴾.
والقول الثاني : وهو قول الأكثرين أنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال كعب : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب حديثي فلما أبطأت عنه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام :"ما الذي حبس كعباً" فلما قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم وأتيته وقلت : إن كراعي وزادي كان حاضراً واحتبست بذنبي فاستغفر لي فأبى الرسول ذلك، ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وجاءت امرأة هلال بن أمية وقالت : يا رسول الله لقد بكى هلال حتى خفت على بصره حتى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى :﴿لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَـاجِرِينَ﴾ وأنزل قوله :﴿وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾ فعند ذلك خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال :"الله أكبر قد أنزل الله عذر أصحابنا" فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتلا عليهم ما نزل فيهم. فقال كعب : توبني إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال :"لا" قلت : فنصفه قال :"لا" قلت : فثلثه قال :"نعم" واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاثة.
الصفة الأولى : قوله :﴿حَتَّى ا إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ قال المفسرون : معناه : أن النبي عليه الصلاة والسلام صار معرضاً عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوماً، وقيل : أكثر، ومعنى ﴿إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ تقدم تفسيره في هذه السورة.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٦٦
والصفة الثانية : قوله :﴿وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ﴾ والمراد ضيق صدورهم بسبب الهم والغم ومجانبة الأولياء والأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة.