﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ﴾ ففيه سؤالان. السؤال الأول : ما الاستهزاء ؟
الجواب : أصل الباب الخفة من الهزء وهو العدو السريع، وهزأ يهزأ مات على مكانه، وناقته تهزأ به أي تسرع، وحدُّه أنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطان ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية، فعلى هذا قولهم :﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ﴾ يعني نظهر لهم الموافقة على دينهم لنأمن شرهم ونقف على أسرارهم، ونأخذ من صدقاتهم وغنائمهم. السؤال الثاني : كيف تعلق قوله :﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ﴾ بقوله :﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ الجواب : هو توكيد له ؛ لأن قوله :﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾ معناه الثبات على الكفر وقوله :﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ﴾ رد للإسلام، ورد نقيض الشيء تأكيد لثباته، أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليه حين قالوا : إنا معكم، فقالوا إن صح ذلك فكيف توافقون أهل الإسلام ؟
فقالوا : إنما نحن مستهزئون.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكى عنهم ذلك أجابهم بأشياء. أحدها : قوله :﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ / وفيه أسئلة. الأول : كيف يجوز وصف الله تعالى بأنه يستهزىء وقد ثبت أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس، وهو على الله محال، ولأنه لا ينفك عن الجهل، لقوله :﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ (البقرة : ٦٧) والجهل على الله محال والجواب : ذكروا في التأويل خمسة أوجه : أحدها : أن ما يفعله الله بهم جزاء على استهزائهم سماه بالاستهزاء، لأن جزء الشيء يسمى باسم ذلك الشيء قال تعالى :﴿وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ (الشورى : ٤٠) ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ (البقرة : ١٩٤) ﴿يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ﴾ (النساء : ١٤٤) ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه ﴾ (آل عمران : ٥٤) وقال عليه السلام :"اللهم إن فلاناً هجاني وهو يعلم أني لست بشاعر فاهجه، اللهم والعنه عدد ما هجاني" أي أجزه جزاء هجائه، وقال عليه السلام :"تكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" وثانيها : أن ضرر استهزائهم بالمؤمنين راجع عليهم وغير ضار بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم. وثالثها : أن من آثار الاستهزاء حصول الهوان والحقارة فذكر الاستهزاء، والمراد حصول الهوان لهم تعبيراً بالسبب عن المسبب. ورابعها : إن استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أحكامه في الدنيا ما لهم عند الله خلافها في الآخرة، كما أنهم أظهروا للنبي والمؤمنين أمراً مع أن الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا التأويل ضعيف، لأنه تعالى لما أظهر لهم أحكام الدنيا فقد أظهر الأدلة الواضحة بما يعاملون به في الدار الآخرة من سوء المنقلب والعقاب العظيم، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا. وخامسها : أن الله تعالى يعاملهم معاملة المستهزىء في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فلأنه تعالى أطلع الرسول على أسرارهم مع أنهم كانوا يبالغون في إخفائها عنه، وأما في الآخرة فقال ابن عباس : إذا دخل المؤمنون الجنة، والكافرون النار فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة، وأهل الجنة ينظرون إليهم، فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب، فذاك قوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠٨
﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ إلى قوله :﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ (المطففين : ٣٤) فهذا هو الاستهزاء بهم. السؤال الثاني : كيف ابتدأ قوله :﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ ولم يعطف على الكلام الذي قبله ؟
الجواب : هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة. وفيه أن الله تعالى هو الذي يستهزىء بهم استهزاء العظيم الذي يصير استهزائهم في مقابلته كالعدم، وفيه أيضاً أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم باستهزاء مثله.