واعلم أن ظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أنا نقول : المرضى والضعفاء والعاجزون مخصوصون بدليل العقل وأيضاً بقوله تعالى :﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ (البقرة : ٢٨٦) وأيضاً بقوله :﴿لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ﴾ (النور : ٦١ الفتح : ١٧) الآية وأما أن الجهاد غير واجب على كل أحد بعينه، فقد دل الإجماع عليه فيكون مخصوصاً من هذا العموم وبقي ما وراء هاتين الصورتين داخلاً تحت هذا العموم.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٧٠
واعلم أنه تعالى لما منع من التخلف بين أنه لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من أنواع المشقة إلا وهو يوجب الثواب العظيم عند الله تعالى ثم إنه ذكر أموراً خمسة : أولها : قوله :﴿ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ﴾ وهو شدة العطش يقال ظمىء فلان إذا اشتد عطشه. وثانيها : قوله :﴿وَلا نَصَبٌ﴾ ومعناه الإعياء والتعب. وثالثها :﴿وَلا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يريد مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ومنه يقال : فلان خميص البطن. ورابعها : قوله :﴿مَعَه ا أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ أي ولا يضع الإنسان قدمه ولا يضع فرسه حافره، ولا يضع بعيره خفه بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار قال ابن الأعرابي : يقال غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى واحد، أي أغضبه. وخامسها : قوله :﴿وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا﴾ أي أسراً وقتلاً وهزيمة قليلاً كان أو كثيراً ﴿إِلا كُتِبَ لَهُم بِه عَمَلٌ صَـالِحٌ ﴾ أي إلا كان ذلك قربة لهم عند الله ونقول دلت هذه الآية على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيته وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله. وكذا القول في طرف المعصية فما أعظم بركة الطاعة وما أعظم شؤم المعصية، واختلفوا فقال قتادة : هذا الحكم من خواص رسول الله إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر. وقال ابن زيد : هذا حين كان المسلمون قليلين فلما كثروا نسخها الله تعالى بقوله :﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً ﴾ (التوبة : ١٢٢) وقال عطية ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم وأمرهم وهذا هو الصحيح، لأنه تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله إذا أمر وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا لأنا لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض ولأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد.
ثم قال :﴿وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً﴾ يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سوط فما فوقها ولا يقطعون وادياً، والوداي كل مفرج بين جبال وآكام يكون مسلكاً للسيل، والجمع الأودية إلا كتب الله لهم ذلك الإنفاق وذلك المسير.
ثم قال :﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وفيه وجهان : الأول : أن الأحسن من / صفة فعلهم، وفيها الواجب والمندوب والمباح والله تعالى يجزيهم على الأحسن، وهو الواجب والمندوب، دون المباح. والثاني : أن الأحسن صفة للجزاء، أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل، وهو الثواب.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٧٠
١٧٢
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه يمكن أن يقال : هذه الآية من بقية أحكام الجهاد، ويمكن أن يقال : إنها كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهاد.
أما الاحتمال الأول : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان إذا خرج إلى الغزو لم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر. فلما بالغ الله سبحانه في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون : والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع الرسول عليه السلام ولا عن سرية. فلما قدم الرسول عليه السلام المدينة، وأرسل السرايا إلى الكفار، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة، فنزلت هذه الآية. والمعنى : أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بكليتهم إلى الغزو والجهاد، بل يجب أن يصيروا طائفتين. تبقى طائفة في خدمة الرسول، وتنفر طائفة أخرى إلى الغزو، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار، وأيضاً كانت التكاليف تحدث والشرائع تنزل، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول عليه السلام فيتعلم تلك الشرائع، ويحفظ تلك التكاليف ويبلغها إلى الغائبين. فثبت أن في ذلك الوقت كان الواجب انقسام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قسمين، أحد القسمين ينفرون إلى الغزو والجهاد، والثاني : يكونون مقيمين بحضرة الرسول، فالطائفة النافرة إلى الغزو يكونون نائبين عن المقيمين في الغزو، والطائفة المقيمة يكونون نائبين عن النافرين، في التفقه، وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين.