اعلم أن الله تعالى لما بين أن الذين في قلوبهم مرض يموتون وهم كافرون، وذلك يدل على عذاب الآخرة، بين أنهم لا يتخلصون في كل عام مرة أو مرتين عن عذاب الدنيا وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة ﴿أَوَلا يَرَوْنَ﴾ بالتاء على الخطاب للمؤمنين، والباقون بالياء خبراً عن المنافقين، فعلى قراءة المخاطبة، كان المعنى أن المؤمنين نبهوا على إعراض المنافقين عن النظر والتدبر، ومن قرأ على المغايبة، كان المعنى تقريع المنافقين بالإعراض عن الاعتبار بما يحدث في حقهم من الأمور الموجبة للاعتبار.
المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : قوله :﴿أَوَلا يَرَوْنَ﴾ هذه ألف الاستفهام دخلت على / واو العطف، فهو متصل بذكر المنافقين، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليل في قوله :﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً﴾ المعنى : أنه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
المسألة الثالثة : ذكروا في هذه الفتنة وجوهاً : الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما يمتحنون بالمرض في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون من ذلك النفاق ولا يتعظون بذلك المرض، كما يتعظ بذلك المؤمن إذا مرض، فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي الله، فيزيده ذلك إيماناً وخوفاً من الله، فيصير ذلك سبباً لاستحقاقه لمزيد الرحمة والرضوان من عند الله. الثاني : قال مجاهد :﴿يُفْتَنُونَ﴾ بالقحط والجوع. الثالث : قال قتادة : يفتنون بالغزو والجهاد فإنه تعالى أمر بالغزو والجهاد فهم إن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي والذكر القبيح، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين كانوا قد عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة. الرابع : قال مقاتل : يفضحهم رسول الله بإظهار نفاقهم وكفرهم قيل : إنهم كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فكان جبريل عليه السلام ينزل عليه ويخبره بما قالوه فيه، فكان يذكر تلك الحادثة لهم ويوبخهم عليها، ويعظهم فما كانوا يتعظون، ولا ينزجرون.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٧٦
١٧٧
اعلم أن هذا نوع آخر من مخازي المنافقين، وهو أنه كلما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين وشرح فضائحهم، وسمعوها تأذوا من سماعها، ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها وتحقير شأنها، ويحتمل أن لا يكون ذلك مختصاً بالسورة المشتملة على فضائح المنافقين بل كانوا يستخفون بالقرآن، فكلما سمعوا سورة استهزؤوا بها وطعنوا فيها، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء، ثم قال بعضهم لبعض : هل يراكم من أحد ؟
أي لو رآكم من أحد ؟
وهذا فيه وجوه : الأول : أن ذلك النظر دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النظر وتلك الأحوال الدالة على النفاق والكفر، فعند ذلك قالوا :﴿هَلْ يَرَاـاكُم مِّنْ أَحَدٍ﴾ أي لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم / جداً ؟
والثاني : أنهم كانوا إذا سمعوا تلك السورة تأذوا من سماعها، فأرادوا الخروج من المسجد، فقال بعضهم لبعض :﴿هَلْ يَرَاـاكُم مِّنْ أَحَدٍ﴾ يعني إن رأوكم فلا تخرجوا، إن كان ما رآكم أحد فاخرجوا من المسجد، لتتخلصوا عن هذا الإيذاء. والثالث :﴿هَلْ يَرَاـاكُم مِّنْ أَحَدٍ﴾ يمكنكم أن تقولوا نحبه، فوجب علينا الخروج من المسجد. قال تعالى :﴿ثُمَّ انصَرَفُوا ﴾ يحتمل أن يكون المراد نفس هربهم من مكان الوحي واستماع القرآن، ويجوز أن يراد به، ثم انصرفوا عن استماع القرآن إلى الطعن فيه وإن ثبتوا في مكانهم.
فإن قيل : ما التفاوت بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة وهي قوله :﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـاذِه إِيمَـانًا ﴾.
قلنا : في تلك الآية حكى عنهم أنهم ذكروا قولهم :﴿أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـاذِه إِيمَـانًا ﴾ وفي هذه الآية حكى عنهم أنهم اكتفوا بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزؤ، وطلبوا الفرار.
ثم قال تعالى :﴿صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ واحتج أصحابنا به على أنه تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه وهو صحيح فيه، قال ابن عباس رضي الله عنهما : عن كل رشد وخير وهدى، وقال الحسن : صرف الله قلوبهم وطبع عليها بكفرهم، وقال الزجاج : أضلهم الله تعالى، قالت المعتزلة : لو كان تعالى هو الذي صرفهم عن الإيمان فكيف قال :﴿أَنَّى يُصْرَفُونَ﴾ وكيف عاقبهم على الانصراف عن الإيمان ؟
قال القاضي : ظاهر الآية يدل على أن هذا الصرف عقوبة لهم على انصرافهم، والصرف عن الإيمان لا يكون عقوبة، لأنه لو كان كذلك، لكان كما يجوز أن يأمر أنبياءه بإقامة الحدود، يجوز أن يأمرهم بصرف الناس عن الإيمان. وتجويز ذلك يؤدي أن لا يوثق بما جاء به الرسول. ثم قال : هذا الصرف يحتمل وجهين : أحدهما : أنه تعالى صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد. الثاني : صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن واهتدى.