الصفة الثانية : قوله تعالى :﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ اعلم أن العزيز هو الغالب الشديد، والعزة هي الغلبة والشدة. فإذا وصلت مشقة إلى الإنسان عرف أنه كان عاجزاً عن دفعها إذ لو قدر على دفعها لما قصر في ذلك الدفع/ فحيث لم يدفعها، علم أنه كان عاجزاً عن دفعها، وأنها كانت غالبة على الإنسان. فلهذا السبب إذا اشتد على الإنسان شيء قال : عز علي هذا، وأما العنت فيقال : عنت الرجل يعنت عنتاً إذا وقع في مشقة وشدة لا يمكنه الخروج منها، ومنه قوله تعالى :﴿ذَالِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ﴾ (النساء : ٢٥) وقوله :﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ﴾ (البقرة : ٢٢٠) وقال الفراء :﴿مَآ﴾ في قوله :﴿مَا عَنِتُّمْ﴾ في موضع رفع، والمعنى : عزيز عليه عنتكم، أي يشق عليه مكروهكم، وأولى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله تعالى، وهو إنما أرسل ليدفع هذا المكروه.
والصفة الثالثة : قوله :﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾ والحرص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم، بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.
واعلم أن على هذا التقدير يكون قوله :﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ معناه : شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم، وبهذا التقدير لا يحصل التكرار. قال الفراء : الحريص الشحيح، ومعناه : أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار، وهذا بعيد، لأنه يوجب الخلو عن الفائدة.
والصفة الرابعة والخامسة : قوله :﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : سماه الله تعالى باسمين من أسمائه. بقي ههنا سؤالان :
السؤال الأول : كيف يكون كذلك، وقد كلفهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة التي لا يقدر على تحملها إلا الموفق من عند الله تعالى ؟
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٧٩
قلنا : قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق والأب المشفق، والمعنى : أنه إنما فعل بهم ذلك ليتخلصوا من العقاب المؤبد، ويفوزوا بالثواب المؤبد.
السؤال الثاني : لما قال :﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾ فهذا النسق يوجب أن يقال : رؤوف رحيم بالمؤمنين، فلم ترك هذا النسق وقال :﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾.
الجواب : أن قوله :﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ يفيد الحصر بمعنى أنه لا رأفة ولا رحمة له إلا بالمؤمنين. فأما الكافرون فليس له عليهم رأفة ورحمة، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التغليظ كأنه يقول : إني وإن بالغت في هذه السورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليط على الكافرين والمنافقين. وأما رحمتي ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين فقط، فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق.
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ١٧٩
١٨٣
أما قوله :﴿فَإِن تَوَلَّوْا ﴾ يريد المشركين والمنافقين. ثم قيل :﴿تَوَلَّوْا ﴾ أي أعرضوا عنك. وقيل : تولوا عن طاعة الله تعالى وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل : تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة، وقيل : تولوا عن نصرتك في الجهاد. واعلم أن / المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف، لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف، لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء، وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء ﴿لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ ﴾ وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدىء لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو، وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة، وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه.
ثم قال :﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم، والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم، كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم، ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه.
فإن قالوا : العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى ؟


الصفحة التالية
Icon