المسألة الخامسة : أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله، بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير. أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي، وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها. وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي.
المسألة السادسة : قوله :﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين. أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في "البسيط" منها وجوهاً. قال الليث وأبو الهيثم : القدم السابقة، والمعنى : أنهم قد سبق لهم عند الله خير. قال ذو الرمة :
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة
لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خير، وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.
واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني، أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمى المسبب باسم السبب، كما سميت النعمة يداً، لأنها تعطى باليد.
فإن قيل : فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه :﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾.
قلنا : الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة، وقال بعضهم : المراد مقام صدق. وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ على الأعمال الصالحة ؛ وبعضهم حمله على الثواب، ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام، واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد :
صل لذي العرش واتخذ قدما
بنجيك يوم العثار والزلل
المسألة السابعة : أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين ﴿إِنَّ هَـاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر. والابتداء بقوله :﴿قَالَ الْكَـافِرُونَ﴾ على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين، قال القفال : وإضمار هذا، غير قليل في القرآن.
المسألة الثامنة : قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ﴿إِنَّ هَـاذَا لَسِحْرٌ﴾ والمراد منه محمد صلى الله عليه وسلّم، والباقون ﴿لَسِحْرٌ﴾ والمراد به القرآن.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٨٨
واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحراً يدل على عظم محل القرآن عندهم، وكونه معجزاً. / وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة، فاحتاجوا إلى هذا الكلام.
واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحراً، يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه. فقال بعضهم : أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر، ولكنه باطل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال أخرون : أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله، جار مجرى السحر.
واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه، وإنما قلنا إنه في غاية الفساد، لأنه صلى الله عليه وسلّم كان منهم، ونشأ بينهم وما غاب عنهم، وما خالط أحداً سواهم، وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء، حتى يقال : إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن. وإذا كان الأمر كذلك، كان حمل القرآن على السحر كلاماً في غاية الفساد، فلهذا السبب ترك جوابه.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٨٨
١٩٣
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة، ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولاً يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب، كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين : أحدهما : إثبات أن لهذا لعالم إلهاً قاهراً قادراً نافذاً لحكم بالأمر والنهي والتكليف. والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما، فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.
أما الأول : وهو إثبات الإلهية، فبقوله تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ﴾.
وأما الثاني : وهو إثبات المعاد والحشر والنشر. فبقوله :﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ﴾ (يونس : ٤) فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن، ونهاية الكمال. وفي الآية مسائل :