المثال الثالث : أنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق، فلأن يكون قادراً على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى، وهذا الكلام قرره تعالى في آيات كثيرة، منها في هذه الآية وهو قوله :﴿إِنَّه يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ﴾ وثانيها : قوله تعالى في سورة يس :﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ (يس : ٧٩) وثالثها : قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ﴾ (الواقعة : ٦٢) ورابعها : قوله تعالى :﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاوَّلِا بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ (ق : ١٥) وخامسها : قوله تعالى :﴿أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ﴾ (القيامة : ٣٦، ٣٣) إلى قوله :﴿أَلَيْسَ ذَالِكَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى ﴾ (القيامة : ٤٠) وسادسها : قوله تعالى :﴿ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن تُرَابٍ﴾ (الحج : ٥) إلى قوله :﴿ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّه يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّه عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ﴾ (الحج : ٦، ٧) فاستشهد تعالى في هذه الآية على صحة الحشر بأمور : الأول : أنه استدل بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني وهو قوله :﴿إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن تُرَابٍ﴾ كأنه تعالى يقول : لما حصل الخلق الأول بانتقال هذه الأجسام من أحوال إلى أحوال أخرى فلم لا يجوز أن يحصل الخلق الثاني بعد تغيرات كثيرة، واختلافات متعاقبة ؟
والثاني : أنه تعالى شبهها بإحياء الأرض الميتة. والثالث : أنه تعالى هو الحق وإنما يكون كذلك لو كان كامل القدرة تام العلم والحكمة. فهذه هي الوجوه المستنبطة من هذه الآية على إمكان صحة الحشر والنشر.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧
والآية السابعة : في هذا الباب قوله تعالى :﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُم فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ (الإسراء : ٥٠/ ٥١).
المثال الرابع : أنه تعالى لما قدر على تخليق ما هو أعظم من أبدان الناس فكيف يقال : إنه لا يقدر على إعادتها ؟
فإن من كان الفعل الأصعب عليه سهلاً، فلأن يكون الفعل السهل الحقير عليه سهلاً كان. أولى وهذا المعنى مذكور في آيات كثيرة : منها : قوله تعالى :﴿أَوَلَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾ (يس : ٨١) وثانيها : قوله تعالى :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَـادِرٍ عَلَى ا أَن يُحِـاىَ الْمَوْتَى ﴾ (الأحقاف : ٣٣) وثالثها :﴿أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَآءُا بَنَـاـاهَا﴾ (النازعات : ٢٧).
المثال الخامس : الاستدلال بحصول اليقظة بعد النوم على جواز الحشر والنشر، فإن النوم أخو الموت، واليقظة بعد الموت. قال تعالى :﴿وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ﴾ (الأنعام : ٦٠) ثم ذكر عقيبه أمر الموت والبعث، فقال :﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه ا وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى ا إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاـاهُمُ الْحَقِّ ﴾ (الأنعام : ٦١، ٦٢) وقال في آية أخرى ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ﴾ (الزمر : ٤٢) إلى قوله :﴿إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الرعد : ٣) والمراد منه الاستدلال بحصول هذه الأحوال على صحة البعث والحشر والنشر.
المثال السادس : أن الإحياء بعد الموت لا يستنكر إلا من حيث إنه يحصل الضد بعد حصول الضد، إلا أن ذلك غير مستنكر في قدرة الله تعالى، لأنه لما جاز حصول الموت عقيب الحياة فكيف يستبعد حصول الحياة مرة أخرى بعد الموت ؟
فإن حكم الضدين واحد. قال تعالى مقرراً لهذا المعنى :﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ (الواقعة : ٦٠) وأيضاً نجد النار مع حرها ويبسها تتولد من الشجر الأخضر مع برده ورطوبته فقال :﴿الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ﴾ (يس : ٨٠) فكذا ههنا، فهذا جملة الكلام في بيان أن القول بالمعاد، وحصول الحشر والنشر غير مستبعد في العقول.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧
المسألة الثانية : في إقامة الدلالة على أن المعاد حق واجب.