جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧
والجواب : أن هذا الذي ذكرته مما يقوي دليلنا، فإنه ثبت في صريح العقل وجوب التفرقة، ودل الحس على أنه لم تحصل هذه التفرقة في الدنيا، بل كان الأمر على الضد منه، فإنا نرى العالم والزاهد في أشد البلاء، ونرى الكافر والفاسق في أعظم النعم. فعلمنا أنه لا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا التفاوت، وأيضاً لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن هذا الزاهد العابد لو أعطاه ما دفع إلى الكافر الفاسق لطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، وأن ذلك الكافر الفاسق لو زاد عليه في التضييق لزاد في الشر وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِه لَبَغَوْا فِى الارْضِ﴾ (الشورى : ٢٧).
الحجة الثالثة : أنه تعالى كلف عبيده بالعبودية فقال :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الطاريات : ٥٦) والحكيم إذا أمر عبده بشيء، فلا بد وأن يجعله فارغ الباب منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تلك التكاليف، والناس جبلوا على طلب اللذات وتحصيل الراحات لأنفسهم، فلو لم يكن لهم زاجر من خوف المعاد لكثر الهرج والمرج ولعظمت الفتن، وحينئذ لا يتفرغ المكلف للاشتغال بأداء العبادات. فوجب القطع بحصول دار الثواب والعقاب لتنتظم أحوال العالم حتى يقدر المكلف على الاشتغال بأداء العبودية.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في بقاء نظام العالم مهابة الملوك وسياساتهم ؟
وأيضاً فالأوباش يعلمون أنهم لو حكموا بحسن الهرج والمرج. لانقلب الأمر عليهم ولقدر غيرهم على قتلهم، وأخذ أموالهم، فلهذا المعنى يحترزون عن إثارة الفتن.
والجواب : أن مجرد مهابة السلاطين لا تكفي في ذلك، وذلك لأن السلطان إما أن يكون قد بلغ في القدرة والقوة إلى حيث لا يخاف من الرعية، وإما أن يكون خائفاً منهم، فإن كان لا يخاف الرعية مع أنه لا خوف له من المعاد، فحينئذ يقدم على الظلم والإيذاء على أقبح الوجوه، لأن الداعية النفسانية قائمة، ولا رادع له في الدنيا ولا في الآخرة، وأما إن كان يخاف الرعية فحينئذ الرعية لا يخافون منه خوفاً شديداً، فلا يصير ذلك رادعاً لهم عن القبائح والظلم. فثبت أن نظام العالم لا يتم ولا يكمل إلا بالرغبة في المعاد والرهبة عنه.
الحجة الرابعة : أن السلطان القاهر إذا كان له جمع من العبيد، وكان بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء، وجب على ذلك السلطان إن كان رحيماً ناظراً مشفقاً عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي، فإن لم يفعل ذلك كان راضياً بذلك الظلم، والرضا بالظلم لا يليق بالرحيم الناظر المحسن.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧
إذا ثبت هذا فنقول : إنه سبحانه سلطان قاهر قادر حكيم منزه عن الظلم والعبث. فوجب أن ينتصف لعبيده المظلومين من عبيده الظالمين، وهذا الانتصاف لم يحصل في هذه الدار، لأن المظلوم قد يبقى في غاية الذلة والمهانة، والظالم يبقى في غاية العزة والقدرة، فلا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا العدل وهذا الإنصاف، وهذه الحجة يصلح جعلها تفسيراً لهذه الآية التي نحن في تفسيرها.
فإن قالوا : إنه تعالى لما أقدر الظالم على الظلم في هذه الدار، وما أعجزه عنه، دل على كونه راضياً بذلك الظلم.
قلنا : الإقدار على الظلم عين الإقدار على العدل والطاعة، فلو لم يقدره تعالى على الظلم لكان قد أعجزه عن فعل الخيرات والطاعات، وذلك لا يليق بالحكيم، فوجب في العقل إقداره على الظلم والعدل، ثم إنه تعالى ينتقم للمظلوم من الظالم.
الحجة الخامسة : أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق كل من فيه من الناس فإما أن يقال : إنه تعالى خلقهم لا لمنفعة ولا لمصلحة، أو يقال : إنه تعالى خلقهم لمصلحة ومنفعة. والأول : يليق بالرحيم الكريم. والثاني : وهو أن يقال : إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير، فذلك الخير والمصلحة إما أن يحصل في هذه الدنيا أو في دار أخرى، والأول باطل من وجهين : الأول : أن لذات هذا / العالم جسمانية، واللذات الجسمانية لا حقيقية لها إلا إزالة الألم، وإزالة الألم أمر عدمي، وهذا العدم كان حاصلاً حال كون كل واحد من الخلائق معدوماً، وحينئذ لا يبقى للتخليق فائدة. والثاني : أن لذات هذا العالم ممزوجة بالآلام والمحن، بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات والمحن والبليات، واللذة فيها كالقطرة في البحر. فعلمنا أن الدار التي يصل فيها الخلق إلى تلك الراحات المقصودة دار أخرى سوى دار الدنيا.
فإن قالوا : أليس أنه تعالى يؤلم أهل النار بأشد العذاب لا لأجل مصلحة وحكمة ؟
فلم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى يخلق الخلق في هذا العالم لا لمصلحة ولا لحكمة.
قلنا : الفرق أن ذلك الضرر ضرر مستحق على أعمالهم الخبيثة. وأما الضرر الحاصل في الدنيا فغير مستحق، فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة ومنافع جابرة لتلك المضار السالفة، وإلا لزم أن يكون الفاعل شريراً مؤذياً، وذلك ينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.


الصفحة التالية
Icon