الحجة الثانية عشر : دلت الدلائل على أن العالم محدث ولا بد له من محدث قادر، ويجب أن يكون عالماً، لأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم/ ويجب أن يكون غنياً عنها وإلا لكان قد خلقها في الأزل وهو محال، فثبت أن لهذا العالم إلهاً قادراً عالماً غنياً، ثم لما تأملنا فقلنا : هل يجوز في حق هذا الحكيم الغني عن الكل أن يهمل عبيده ويتركهم سدى، ويجوز لهم أن يكذبوا عليه ويبيح لهم أن يشتموه ويجحدوا ربوبيته، ويأكلوا نعمته، ويعبدوا الجبت والطاغوت، ويجعلوا له أنداداً وينكروا أمره ونهيه ووعده ووعيده ؟
فههنا حكمت بديهة العقل بأن هذه المعاني لا تليق إلا بالسفيه الجاهل البعيد من الحكمة. القريب من العبث، فحكمنا لأجل هذه المقدمة أن له أمراً ونهياً، ثم تأملنا فقلنا : هل يجوز أن يكون له أمر ونهي مع أنه لا يكون له وعد ووعيد ؟
فحكم صريح العقل بأن ذلك غير جائز لأنه إن لم يقرن الأمر بالوعد بالثواب، ولم يقرن النهي بالوعيد بالعقاب لم يتأكد الأمر والنهي، ولم يحصل المقصود. فثبت أنه لا بد من وعد ووعيد، ثم تأملنا فقلنا : هل يجوز أن يكون له وعد ووعيد ثم إنه لا يفي بوعده لأهل الثواب، ولا بوعيده لأهل العقاب : فقلنا : إن ذلك لا يجوز، لأنه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده ولا بوعيده، وهذا يوجب أن لا يبقى فائدة في الوعد والوعيد، فعلمنا أنه لا بد من تحقيق الثواب والعقاب، ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالحشر والبعث، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فهذه مقدمات يتعلق بعضها بالبعض كالسلسلة متى صح بعضها صح كلها، ومتى فسد بعضها فسد كلها، فدل مشاهدة أبصارنا لهذه التغيرات على حدوث العالم، ودل حدوث العالم على وجود الصانع الحكيم الغني، ودل ذلك على وجود الأمر والنهي، ودل ذلك على وجود الثواب والعقاب، ودل ذلك على وجوب الحشر. فإن لم / يثبت الحشر أدى ذلك إلى بطلان جميع المقدمات المذكورة ولزم إنكار العلوم البديهية وإنكار العلوم النظرية القطعية. فثبت أنه لا بد لهذه الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة المتمزقة من البعث بعد الموت، ليصل المحسن إلى ثوابه والمسيء إلى عقابه، فإن لم تحصل هذه الحالة لم يحصل الوعد والوعيد، وإن لم يحصلا لم يحصل الأمر والنهي، وإن لم يحصلا لم تحصل الإلهية، وإن لم تحصل الإلهية لم تحصل هذه التغيرات في العالم. وهذه الحجة هي المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله :﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ﴾ هذا كله تقرير إثبات المعاد بناء على أن لهذا العالم إلهاً رحيماً ناظراً محسناً إلى العباد.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧
أما الفريق الثاني : وهم الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح، فطريقهم إلى إثبات المعاد أن قالوا : المعاد أمر جائز الوجود، والأنبياء عليهم السلام أخبروا عنه، فوجب القطع بصحته، أما إثبات الإمكان فهو مبني على مقدمات ثلاثة.
المقدمة الأولى : البحث عن حال القابل فنقول : الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن، فإن كان عبارة عن النفس وهو القول الحق، فنقول : لما كان تعلق النفس بالبدن في المرة الأولى، جائزاً كان تعلقها بالبدن في المرة الثانية يجب أن يكون جائزاً. وهذا الكلام لا يختلف، سواء قلنا النفس عبارة عن جوهر مجرد، أو قلنا : إنه جسم لطيف مشاكل لهذا البدن باق في جميع أحوال البدن مصون عن التحلل والتبدل، وأما إن كان الأنسان عبارة عن البدن، وهذا القول أبعد الأقاويل فنقول : إن تألف تلك الأجزاء على الوجه المخصوص في المرة الأولى كان ممكناً، فوجب أيضاً أن يكون في المرة الثانية ممكناً، فثبت أن عود الحياة إلى هذا البدن مرة أخرى أمره ممكن في نفسه.
وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أن إله العالم قادر مختار. لا علة موجبة، وأن هذا القادر قادر على كل الممكنات.
وأما المقدمة الثالثة : فهي في بيان أن إله العالم عالم بجميع الجزئيات/ فلا جرم أجزاء بدن زيد وإن اختطلت بأجزاء التراب، والبحار إلا أنه تعالى لما كان عالماً بالجزئيات أمكنه تمييز بعضها عن بعض. ومتى ثبتت هذه المقدمات الثلاثة، لزم القطع بأن الحشر والنشر أمر ممكن في نفسه.
وإذا ثبت هذا الإمكان فنقول : دل الدليل على صدق الأنبياء وهم قطعوا بوقوع هذا الممكن، فوجب القطع بوقوعه، وإلا لزمنا تكذيبهم، وذلك باطل بالدلائل الدالة على صدقهم، فهذا خلاصة ما وصل إليه عقلنا في تقرير أمر المعاد.
المسألة الثالثة : في الجواب عن شبهات المنكرين للحشر والنشر.