والجواب : هذا بناء على صحة تعليل أحكام الله تعالى وهو باطل، سلمنا صحته. إلا أن كلامه إنما يصح لو عللنا بدء الخلق وإعادته بهذا المعنى وذلك ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال : إنه يبدأ الخلق لمحض التفضل، ثم إنه تعالى يعيدهم لغرض إيصال نعم الجنة إليهم ؟
وعلى هذا التقدير : سقط كلامه. أما قوله تعالى :﴿بِالْقِسْطِ ﴾ ففيه وجهان :
الوجه الأول :﴿بِالْقِسْطِ ﴾ بالعدل، وهو يتعلق بقوله :﴿لِيَجْزِىَ﴾ والمعنى : ليجزيهم بقسطه، وفيه سؤالان.
السؤال الأول : أن القسط إذا كان مفسراً بالعدل، فالعدل هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً، وذلك يقتضي أنه تعالى لا يزيدهم على ما يستحقونه بأعمالهم، ولا يعطيهم شيئاً على سبيل التفضل ابتداء.
والجواب : عندنا أن الثواب أيضاً محض التفضل. وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق، إلا أن لفظ ﴿الْقِسْطَ﴾ يدل على توفية الأجر، فأما المنع من الزيادة فلفظ ﴿الْقِسْطَ﴾ لا يدل عليه.
السؤال الثاني : لم خص المؤمنين بالقسط مع أنه تعالى يجازي الكافرين أيضاً بالقسط ؟
والجواب : أن تخصيص المؤمنين بذلك يدل على مزيد العناية في حقهم، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد هذا الاحتياط.
الوجه الثاني : في تفسير الآية أن يكون المعنى : ليجزي الذين آمنوا بقسطهم، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حيث آمنوا وعملوا الصالحات، لأن الشرك ظلم. قال الله تعالى :﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان : ١٣) والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم. قال الله تعالى :﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه ﴾ (فاطر : ٣٢) وهذا الوجه أقوى، لأنه في مقابلة قوله :﴿بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ (يونس : ٧٠).
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧
وأما قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمُا بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : الحميم : الذي سخن بالنار حتى انتهى حره. يقال : حممت الماء أي سخنته، فهو حميم. ومنه الحمام.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمناً وبين أن يكون كافراً، لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين.
وأجاب القاضي عنه : بأن ذكر هذين القسمين لا يدل على نفي القسم الثالث. والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍا فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِه وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى﴾ (النور : ٤٥) ولم يدل ذلك على نفي القسم الرابع، بل نقول : إن في مثل ذلك ربما يذكر المقصود أو الأكثر، ويترك ذكر ما عداه، إذا كان قد بين في موضع آخر. وقد بين الله تعالى القسم الثالث في سائر الآيات.
والجواب أن نقول : إنما يترك القسم الثالث الذي يجري مجرى النادر، ومعلوم أن الفساق أكثر من أهل الطاعات، وكيف يجوز ترك ذكرهم في هذا الباب ؟
وأما قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ ﴾ فإنما ترك ذكر القسم الرابع والخامس، لأن أقسام ذوات الأرجل كثيرة. فكان ذكرها بأسرها يوجب الإطناب بخلاف هذه المسألة. فإنه ليس ههنا إلا القسم الثالث، وهو الفاسق الذي يزعم الخصم أنه لا مؤمن ولا كافر. فظهر الفرق.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٠٧
٢١٠
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على الإلهية، ثم فرع عليها صحة القول بالحشر والنشر، عاد مرة أخرى إلى ذكر الدلائل الدالة على الإلهية.
واعلم أن الدلائل المتقدمة في إثبات التوحيد والإلهية هي التمسك بخلق السموات والأرض، وهذا النوع إشارة إلى التمسك بأحوال الشمس والقمر، وهذا النوع الأخير إشارة إلى ما يؤكد الدليل الدال على صحة الحشر والنشر، وذلك لأنه تعالى أثبت القول بصحة الحشر والنشر، بناء على أنه لا بد من إيصال الثواب إلى أهل الطاعة، وإيصال العقاب إلى أهل الكفر، وأنه يجب في الحكمة تمييز المحسن عن المسيء، ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب، فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة والحراثة، وإعداد مهمات الشتاء والصيف، فكأنه تعالى يقول : تمييز المحسن عن المسيء والمطيع عن العاصي، أوجب في الحكمة من تعليم أحوال السنين والشهور. فلما اقتضت الحكمة والرحمة خلق الشمس والقمر لهذا المهم الذي لا نفع له إلا في الدنيا. فبأن تقتضي الحكمة والرحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت، مع أنه يقتضي النفع الأبدي والسعادة السرمدية، كان ذلك أولى. فلما كان الاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه، وعلى صحة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه، لا جرم ذكر الله هذا الدليل بعد ذكر الدليل على صحة المعاد.