إذا عرفت هذه المقدمات فنقول : الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة، ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة وفي الإعراض عن الدنيا، وكلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد، وكلما / كان الاستعداد أقوى وأكمل. كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية، لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى :﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِمْ ﴾.
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ﴾ المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم، ونظيره قوله تعالى :﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ (مريم : ٢٤) وهي ما كانت قاعدة عليها، ولكن المعنى بين يديك، وكذا قوله :﴿وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى ﴾ (الزخرف : ٥١) المعنى بين يدي فكذا ههنا.
المسألة الثالثة : الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضاً من جنس المعارف، ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم. بل قال :﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِمْ ﴾ وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة، بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة. ثم إذا حصل هذا الاستعداد، كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى، وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق، ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢١٨
المرتبة الثانية : من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى :﴿دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في دعواهم وجوه : الأول : أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء، يقال : دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال : شكى يشكو شكاية وشكوى. قال بعض المفسرين :﴿دَعْوَاـاهُمْ﴾ أي دعاؤهم. وقال تعالى في أهل الجنة :﴿لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ﴾ (يس : ٥٧) وقال في آية أخرى ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ ءَامِنِينَ﴾ (الدخان : ٥٥) ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء. هو أنهم قالوا : اللهم. وهذا نداء لله سبحانه وتعالى، ومعنى قولهم :﴿سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ﴾ إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت :"اللهم إياك نعبد" الثاني : أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى :﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ (مريم : ٤٨) أي وما تعبدون. فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل على سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى. الثالث : قال بعضهم : لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم. والمعنى : أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه الله تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال : أصل ذلك أيضاً من الدعاء، لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. الرابع : قال مسلم :﴿دَعْوَاـاهُمْ﴾ أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم، وذلك هو قولهم :﴿سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ﴾ الخامس : قال القاضي : المراد من قوله :﴿دَعْوَاـاهُمْ﴾ أي طريقتهم في تمجيد الله تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم. والدليل على أن المراد ذلك أن قوله :﴿سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ﴾ ليس بدعاء ولا بدعوى، إلا أن المدعي للشيء يكون مواظباً على ذكره، لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر، لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها. السادس : قال القفال : قيل في قوله :﴿مَا يَدْعُونَ﴾ (يس : ٥٧) أي ما يتمنونه، والعرب تقول : ادع ما شئت علي، أي تمن. وقال ابن جريج : أخبرت أن قوله :﴿دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ﴾ هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا ﴿سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ﴾ فيأتيهم الملك بذلك المشتهى، فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه، على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللهم، فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني، وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم، وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا الله تعالى، أي تمنيهم لما يتمنونه، ليس إلا في تسبيح الله تعالى وتقديسه وتنزيهه. السابع : قال القفال أيضاً : ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه ويستنصرونه، كقولهم : يا آل فلان، فأخبر الله تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم الله تعالى، وسكونهم بتحميدهم الله. ولذتهم بتمجيدهم الله تعالى.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢١٨
المسألة الثانية : أن قوله :﴿سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ﴾ فيه وجهان :


الصفحة التالية
Icon