الفرع الثالث : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن ذلك منسوخ بقوله :﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ (الفتح : ٢) وهذا بعيد لأن النسخ إنما يدخل في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية.
الفرع الرابع : قالت المعتزلة : إن قوله :﴿إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ مشروط بما يكون واقعاً بلا توبة ولا طاعة أعظم منها، ونحن نقول فيه تخصيص ثالث. وهو أن لا يعفو عنه ابتداء، لأن عندنا يجوز من الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٢٥
٢٢٦
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنا بينا فيما سلف، أن القوم إنما التمسوا منه ذلك الالتماس، لأجل أنهم اتهموه بأنه هو الذي يأتي بهذا الكتاب من عند نفسه، على سبيل الاختلاق والافتعال، لا على سبيل كونه وحياً من عند الله. فلهذا المعنى احتج النبي عليه الصلاة والسلام على فساد هذا الوهم بما ذكره الله تعالى في هذه الآية. وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أول عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتاباً ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين. وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى، فقوله :﴿لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُه عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاـاكُم بِه ﴾ حكم منه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن وحي من عند الله تعالى، لا من اختلاقي ولا من افتعالي. وقوله :﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِه ﴾ إشارة إلى الدليل الذي قررناه، وقوله :﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ يعني أن مثل / هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتاباً ولم يمارس مجادلة، يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل. وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل. فلهذا السبب قال :﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾.
المسألة الثانية : قوله :﴿وَلا أَدْرَاـاكُم بِه ﴾ هو من الدراية بمعنى العلم. قال سيبويه : يقال دريته ودريت به، والأكثر هو الاستعمال بالباء. والدليل عليه قوله تعالى :﴿وَلا أَدْرَاـاكُم بِه ﴾ ولو كان على اللغة الأخرى لقال ولا أدراكموه.
إذا عرفت هذا فنقول : معنى ﴿وَلا أَدْرَاـاكُم بِه ﴾ أي ولا أعلمكم الله به ولا أخبركم به. قال صاحب "الكشاف" : قرأ الحسن ﴿وَلا أَدْرَاـاكُم بِه ﴾ على لغة من يقول أعطأته وأرضأته في معنى أعطيته وأرضيته ويعضده قراءة ابن عباس ﴿وَلا أَدْرَاـاكُم بِه ﴾ ورواه الفراء ﴿وَلا﴾ به بالهمز، والوجه فيه أن يكون من أدرأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارياً، والمعنى : ولا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال وتكذبونني، وعن ابن كثير بلام الابتداء لإثبات الإدراء.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٢٦
وأما قوله تعالى :﴿بِه ا فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِه ﴾ فالقراءة المشهورة بضم الميم، وقرىء ﴿عُمُرًا﴾ بسكون الميم.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٢٦
٢٢٦
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر، وذلك لأنهم التمسوا منه قرآناً يذكره من عند نفسه، ونسبوه إلى أنه إنما يأتي بهذا القرآن من عند نفسه، ثم إنه أقام البرهان القاهر الظاهر على أن ذلك باطل، وأن هذا القرآن ليس إلا بوحي الله تعالى وتنزيله، فعند هذا قال :﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ والمراد أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله، لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني، حيث افتريته على الله، ولما أقمت الدلالة على أنه ليس الأمر كذلك، بل هو بوحي من الله تعالى وجب أن يقال إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه منكم، لأنه لما ظهر بالبرهان المذكور كونه من عند الله، فإذا أنكرتموه كنتم قد كذبتم بآيات الله. فوجب أن تكونوا أظلم الناس. والحاصل أن قوله :﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ المقصود منه نفي الكذب عن نفسه وقوله :/ ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ﴾ المقصود منه إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث أنكروا دلائل الله، وكذبوا بآيات الله تعالى.
وأما قوله :﴿إِنَّه لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ فهو تأكيد لما سبق من هذين الكلامين. والله أعلم.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٢٦
٢٢٨


الصفحة التالية
Icon