القول الثاني : قول من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الكفر، وهذا القول منقول عن طائفة من المفسرين. قالوا : وعلى هذا التقدير ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنه تعالى بين للرسول عليه الصلاة والسلام، أنه لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الدين مجيباً لك، قابلاً لدينك. / فإن الناس كلهم كانوا على الكفر، وإنما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك، فكيف تطمع في اتفاق الكل على الإيمان ؟
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٠
القول الثالث : قول من يقول : المراد إنهم كانوا أمة واحدة في أنهم خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان. وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام :"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" ومنهم من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الشرائع العقلية، وحاصلها يرجع إلى أمرين : التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله. وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِه شَيْـاًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا ﴾ (الأنعام : ١٥١) واعلم أن هذه المسألة قد استقصينا فيها في سورة البقرة، فلنكتف بهذا القدر ههنا.
أما قوله تعالى :﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ فاعلم أنه ليس في الآية ما يدل على أن تلك الكلمة ما هي ؟
وذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن يقال لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده، وإن كانوا به كافرين، لقضى بينهم بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم، لكن لما كان ذلك سبباً لزوال التكليف، ويوجب الإلجاء، وكان إبقاء التكليف أصوب وأصلح، لا جرم أنه تعالى أخر هذا العقاب إلى الآخرة. ثم قال هذا القائل، وفي ذلك تصبير للمؤمنين على احتمال المكاره من قبل الكافرين والظالمين. الثاني :﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعاماً عليهم، لقضى بينهم في اختلافهم، بما يمتاز المحق من المبطل والمصيب من المخطىء الثالث : أن تلك الكلمة هي قوله :"سبقت رحمتي غضبي" فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال وإمهاله إلى وقت الوجدان.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٠
٢٣٠
اعلم أن هذا الكلام هو النوع الرابع من شبهات القوم في إنكارهم نبوته، وذلك أنهم. قالوا : أن القرآن الذي جئتنا به كتاب مشتمل على أنواع من الكلمات، والكتاب لا يكون معجزاً، ألا ترى أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما، بل كان لهما أنواع من المعجزات دلت على نبوتهما / سوى الكتاب. وأيضاً فقد كان فيهم من يدعي إمكان المعارضة، كما أخبر الله تعالى أنهم قالوا :﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَآ ﴾ وإذا كان الأمر كذلك لا جرم طلبوا منه شيئاً آخر سوى القرآن، ليكون معجزة له، فحكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله :﴿وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّه ﴾ فأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يقول عند هذا السؤال ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾.
واعلم أن الوجه في تقرير هذا الجواب أن يقال : أقام الدلالة القاهرة على أن ظهور القرآن عليه معجزة قاهرة ظاهرة. لأنه عليه الصلاة والسلام بين أنه نشأ فيما بينهم وتربى عندهم، وهم علموا أنه لم يطالع كتاباً، ولم يتلمذ لأستاذ. بل كان مدة أربعين سنة معهم ومخالطاً لهم، وما كان مشتغلاً بالفكر والتعلم قط، ثم إنه دفعة واحدة ظهر هذا القرآن العظيم عليه، وظهور مثل هذا الكتاب الشريف العالي، على مثل ذلك الإنسان الذي لم يتفق له شيء من أسباب التعلم، لا يكون إلا بالوحي. فهذا برهان قاهر على أن القرآن معجز قاهر ظاهر، وإذا ثبت هذا كان طلب آية أخرى سوى القرآن من الاقتراحات التي لا حاجة إليها في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام، وتقرير رسالته، ومثل هذا يكون مفوضاً إلى مشيئة الله تعالى، فإن شاء أظهرها، وإن شاء لم يظهرها، فكان ذلك من باب الغيب، فوجب على كل أحد أن ينتظر أنه هل يفعله الله أم لا ؟
ولكن سواء فعل أو لم يفعل، فقد ثبتت النبوة، وظهر صدقه في ادعاء الرسالة، ولا يختلف هذا المقصود بحصول تلك الزيادة وبعدمها، فظهر أن هذا الوجه جواب ظاهر في تقرير هذا المطلوب.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٠
٢٣٢
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن القوم لما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية أخرى سوى القرآن، وأجاب الجواب الذي قررناه وهو قوله :﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾ (يونس : ٢٠) ذكر جواباً آخر وهو المذكور في هذه الآية، وتقريره من وجهين :


الصفحة التالية
Icon