جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٢
٢٣٦
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما قال :﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّنا بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِى ءَايَاتِنَا ﴾ كان هذا الكلام كلاماً كلياً لا ينكشف معناه تمام الانكشاف. إلا بذكر مثال كامل، فذكر الله تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالاً، ولمكر الإنسان مثالاً، حتى تكون هذه الآية كالمفسرة للآية التي قبلها، وذلك لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي.
واعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود، حصل له الفرح التام والمسرة القوية، ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة. فأولها : أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة. وثانيها : أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب. وثالثها : أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع، وأن النجاة ليست متوقعة، ولا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم، والرعب الشديد، وأيضاً مشاهدة هذه الأحوال والأهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب، والخوف ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته، ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعاً إلى الله تعالى، ثم إذا نجاه الله تعالى من هذه البلية العظيمة، ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة، ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة، فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن وأكمل من المثال المذكور في هذه الآية.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٦
المسألة الثانية : يحكى أن واحداً قال لجعفر الصادق : اذكر لي دليلاً على إثبات الصانع فقال : أخبرني عن حرفتك : فقال : أنا رجل أتجر في البحر، فقال : صف لي كيفية حالك. فقال : ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها، وجاءت الرياح العاصفة، فقال / جعفر : هل وجدت في قلبك تضرعاً ودعاء. فقال نعم. فقال جعفر : فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت.
المسألة الثالثة : قرأ ابن عامر من النشر الذي هو خلاف الطي كأنه أخذه من قوله تعالى :﴿الصَّلَواةُ فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ﴾ (الجمعة : ١٠) والباقون قرؤا ﴿يُسَيِّرُكُمْ﴾ من التسيير.
المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد يجب أن يكون خلقاً لله تعالى. قالوا : دلت هذه الآية على أن سير العباد من الله تعالى، ودل قوله تعالى :﴿قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ﴾ (الأنعام : ١١) على أن سيرهم منهم، وهذا يدل على أن سيرهم منهم ومن الله، فيكون كسبياً لهم وخلقاً لله ونظيره. قوله تعالى :﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنا بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ (الأنفال : ٥) وقال في آية أخرى :﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ (التوبة : ٤٠) وقال في آية أخرى :﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ (التوبة : ٨٢) ثم قال في آية أخرى ﴿وَأَنَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ (النجم : ٤٣) وقال في آية أخرى ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ (الأفال : ٧) قال الجبائي : أما كونه تعالى مسيراً لهم في البحر على الحقيقة فالأمر كذلك. وأما سيرهم في البر فإنما أضيف إلى الله تعالى على التوسع. فما كان منه طاعة فبأمره وتسهيله، وما كان منه معصية فلأنه تعالى هو الذي أقدره عليه. وزاد القاضي فيه يجوز أن يضاف ذلك إليه تعالى من حيث أنه تعالى سخر لهم المركب في البر، وسخر لهم الأرض التي يتصرفون عليها بإمساكه لها، لأنه تعالى لو لم يفعل ذلك لتعذر عليهم السير. وقال القفال :﴿هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ أي هو الله الهادي لكم إلى السير في البر والبحر طلباً للمعاش لكم، وهو المسير لكم، لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير. هذا جملة ما قيل في الجواب عنه. ونحن نقول : لا شك أن المسير في البحر هو الله تعالى، لأن الله تعالى هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السفينة، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة. فنقول : وجب أيضاً أن يكون مسيراً لهم في البر بهذا التفسير، إذ لو كان مسيراً لهم في البر بمعنى إعطاء الآلات والأدوات لكان مجازاً بهذا الوجه، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعة واحدة، وذلك باطل.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٦
واعلم أن مذهب الجبائي أنه لامتناع في كون اللفظ حقيقة ومجازاً بالنسبة إلى المعنى الواحد. وأما أبو هاشم فإنه يقول : إن ذلك ممتنع، إلا أنه يقول : لا يبعد أن يقال إنه تعالى تكلم به مرتين.