أما القيد الثالث : فهو قوله :﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ﴾ والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك، وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد، فقد دنوا من الهلاك.
السؤال الخامس : ما المراد من الإخلاص في قوله :﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.
والجواب : قال ابن عباس : يريد تركوا الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية. قال الحسن :﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ﴾ الإخلاص الإيمان، لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى، فيكون جارياً مجرى الإيمان الاضطراري. وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا الله. وعن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم أهيا شراهيا تفسيره يا حي يا قيوم.
السؤال السادس : ما الشيء المشاء إليه بقوله هذه في قوله :﴿ لئن أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِه ﴾.
والجواب المراد لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة، وقيل المراد لئن أنجيتنا من هذه الأمواج أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها، إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها.
السؤال السابع : هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار ؟
الجواب : نعم، والتقدير : دعوا الله مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا لئن أنجيتنا، ويمكن / أن يقال : لا حاجة إلا الإضمار، لأن قوله :﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾ يصير مفسراً بقوله :﴿ لئن أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ﴾ فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق. قال ابن عباس : يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى، ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم. قال الزجاج : البغي الترقي في الفساد قال الأصمعي : يقال بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترقى إلى الفساد، وبغت المرأة إذا فجرت، قال الواحدي : أصل هذا اللفظ من الطلب.
فإن قيل : فما معنى قوله :﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ والبغي لا يكون بحق ؟
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٦
قلنا : البغي قد يكون بالحق، وهو استيلاء المسلمين عل أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببني قريظة. ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال :﴿الْحَقِّا يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُما مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ الأكثرون ﴿مَتَـاعٌ﴾ برفع العين، وقرأ حفص عن عاصم ﴿مَتَـاعٌ﴾ بنصب العين، أما الرفع ففيه وجهان : الأول : أن يكون قوله :﴿بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُم ﴾ مبتدأ، وقوله :﴿مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ﴾ خبراً. والمراد من قوله :﴿بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُم ﴾ بغي بعضكم على بعض كما في قوله :﴿فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾ (البقرة : ٥٤) ومعنى الكلام أن بغي بعضكم عن بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها. والثاني : أن قوله ﴿بَغْيُكُمْ﴾ مبتدأ، وقوله :﴿عَلَى ا أَنفُسِكُم ﴾ خبره، وقوله :﴿وَأَبْقَى * قَالُوا لَن﴾ خبر مبتدأ محذوف، والتقدير : هو متاع الحياة الدنيا. وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول : إن قوله :﴿بَغْيُكُمْ﴾ مبتدأ، وقوله :﴿عَلَى ا أَنفُسِكُم ﴾ خبره، وقوله :﴿مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ﴾ في موضع المصدر المؤكد، والتقدير : تتمتعون متاع الحياة الدنيا.
المسألة الثانية : البغي من منكرات المعاصي. قال عليه الصلاة والسلام :"أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة" وروى "ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين" وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :
ف يا صاحب البغي إن البغي مصرعة
فأربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوماً على جبل
لاندك منه أعاليه وأسفله
وعن محمد بن كعب القرظي : ثلاث من كن فيه كن عليه، البغي والنكث والمكر، قال تعالى :﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُم ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٦
المسألة الثالثة : حاصل الكلام في قوله تعالى :﴿الْحَقِّا يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى ا أَنفُسِكُم ﴾ أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة، وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا﴾ أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم ﴿مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا، والأنباء هو الأخبار، وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٦
٢٣٨
في الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon