وأما قوله :﴿وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَـادِرُونَ عَلَيْهَآ﴾ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أن أهل تلك الأرض قادرون على حصادها وتحصيل ثمراتها. والتحقيق أن الضمير وإن كان في الظاهر عائداً إلى الأرض، إلا أنه عائد إلى النبات الموجود في الأرض. وأما قوله :﴿أَتَـاـاهَآ أَمْرُنَا﴾ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد عذابنا. والتحقيق أن المعنى أتاها أمرنا بهلاكها. وقوله :﴿فَجَعَلْنَـاهَا حَصِيدًا﴾ قال ابن عباس : لا شيء فيها، وقال الضحاك : يعني المحصود. وعلى هذا، المراد بالحصيد الأرض التي حصد نبتها، ويجوز أن يكون المراد بالحصيد النبات، قال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل، وقال غيره : الحصيد المقطوع والمقلوع. وقوله :﴿كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالامْسِ ﴾ قال الليث : يقال للشيء إذا فنى : كأن لم يغن بالأمس. أي كأن لم يكن من قولهم غني القوم في دارهم، إذا أقاموا بها، وعلى هذا الوجه يكون هذا صفة للنبات. وقال الزجاج : معناه : كأن لم تعمر بالأمس، وعلى هذا الوجه فالمراد هو الأرض، وقوله :﴿كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ﴾ أي نذكر واحدة منها بعد الأخرى، على الترتيب. ليكون تواليها وكثرتها سبباً لقوة اليقين، وموجباً لزوال الشك والشبهة :
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٨
٢٣٩
المسألة الأولى : في كيفية النظم. اعلم أنه تعالى لما نفر الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق، رغبهم في الآخرة بهذه الآية. ووجه الترغيب في الآخرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"مثلي ومثلكم شبه سيد بنى داراً ووضع مائدة وأرسل داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد. ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد فالله السيد، والدار دار الإسلام، والمائدة الجنة، والداعي محمد عليه السلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنيبها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق / إلا الثقلين. أيها الناس ؛ هلموا إلى ربكم والله يدعوا إلى دار السلام".
المسألة الثانية : لا شبهة أن المراد من دار السلام الجنة، إلا أنهم اختلفوا في السبب الذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه : الأول : أن السلام هو الله تعالى، والجنة داره. ويجب علينا ههنا بيان فائدة تسمية الله تعالى بالسلام، وفيه وجوه : أحدها : أنه لما كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته إلى الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال :﴿وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ ﴾ (محمد : ٣٨) وقال :﴿خَبِيرٍ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّه ﴾ (فاطر : ١٥) وثانيها : أنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أن الخلق سلموا من ظلمه، قال :﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (فصلت : ٤٦) ولأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه، وتصرف الفاعل في ملك نفسه لا يكون ظلماً. ولأن الظلم إنما يصدر إما عن العاجز أو الجاهل أو المحتاج، ولما كان الكل محالاً على الله تعالى، كان الظلم محالاً في حقه. وثالثها : قال المبرد : إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أنه ذو السلام، أي الذي لا يقدر على السلام إلا هو، والسلام عبارة عن تخليص العاجزين عن المكاره والآفات. فالحق تعالى هو الساتر لعيوب المعيوبين، وهو المجيب لدعوة المضطرين، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين. قال المبرد : وعلى هذا التقدير : السلام مصدر سلم.
القول الثاني : السلام جمع سلامة، ومعنى دار السلام : الدار التي من دخلها سلم من الآفات. فالسلام ههنا بمعنى السلامة، كالرضاع بمعنى الرضاعة. فإن الإنسان هناك سلم من كل الآفات، كالموت والمرض والألم والمصائب ونزعات الشيطان والكفر والبدعة والكد والتعب.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٣٩
والقول الثالث : أنه سميت الجنة بدار السلام لأنه تعالى يسلم على أهلها قال تعالى :﴿سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ (يس : ٥٨) والملائكة يسلمون عليهم أيضاً، قال تعالى :﴿وَالْمَلَـا اـاِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَـامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ (الرعد : ٢٣، ٢٤) وهم أيضاً يحيي بعضهم بعضاً بالسلام قال تعالى :﴿تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ﴾ (يونس : ١٠) وأيضاً فسلامهم يصل إلى السعداء من أهل الدنيا، قال تعالى :﴿وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ * فَسَلَـامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ الْيَمِينِ﴾ (الواقعة : ٩٠/ ٩١).


الصفحة التالية
Icon