البحث الثاني : زيلنا فرقنا وميزنا. قال الفراء : قوله :﴿فَزَيَّلْنَا﴾ ليس من أزلت، إنما هو من زلت إذا فرقت. تقول العرب : زلت الضأن من المعز فلم تزل. أي ميزتها فلم تتميز، ثم قال الواحدي : فالزيل والتزييل والمزايلة، والتمييز والتفريق. قال الواحدي : وقرىء ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ وهو مثل ﴿فَزَيَّلْنَا﴾ وحكى الواحدي عن ابن قتيبة أنه قال في هذه الآية : هو من زال يزول وأزلته أنا، ثم حكى عن الأزهري أنه قال : هذا غلط، لأنه لم يميز بين زال يزول، وبين زال يزيل، وبينهما بون بعيد، والقول ما قاله الفراء، ثم قال المفسرون :﴿فَزَيَّلْنَا﴾ أي فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام، وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا.
وأما قوله :﴿وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ ففيه مباحث :
البحث الأول : إنما أضاف الشركاء إليهم لوجوه : الأول : أنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام، فصيروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال، فلهذا قال تعالى :﴿وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم﴾ الثاني : أنه يكفي في الإضافة أدنى تعلق، فلما كان الكفار هم الذين أثبتوا هذه الشركة، لا جرم حسنت إضافة الشركاء إليهم. الثالث : أنه تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله :﴿مَكَانَكُمْ﴾ صاروا شركاء في هذا الخطاب.
البحث الثاني : اختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء. فقال بعضهم : هم الملائكة، واستشهدوا بقوله تعالى :﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُم فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُم وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ (سبأ : ٤٠) ومنهم من قال : بل هي الأصنام، والدليل عليه : أن هذا الخطاب مشتمل على التهديد والوعيد، وذلك لا يليق بالملائكة المقربين، ثم اختلفوا في أن هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام. فقال بعضهم : إن الله تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق فيها، فلا جرم قدرت على ذكر هذا الكلام. وقال آخرون إنه تعالى يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى يسمع منها ذلك الكلام، وهو ضعيف، لأن ظاهر قوله :﴿وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم﴾ يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هم الشركاء.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٥
فإن قيل : إذا أحياهم الله تعالى فهل يبقيهم أو يفنيهم ؟
قلنا : الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله، وأحوال القيامة غير معلومة، إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن.
والقول الثالث : إن المراد بهؤلاء الشركاء، كل من عبد من دون الله تعالى، من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك.
البحث الثالث : هذا الخطاب لا شك أنه تهديد في حق العابدين، فهل يكون تهديداً في حق المعبودين. أما المعتزلة : فإنهم قطعوا بأن ذلك لا يجوز. قالوا : لأنه لا ذنب للمعبود، ومن لا ذنب له، فإنه يقبح من الله تعالى أن يوجه التخويف والتهديد والوعيد إليه. وأما أصحابنا، فإنهم قالوا إنه تعالى لا يسئل عما يفعل.
البحث الرابع : أن الشركاء قالوا :﴿مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ وهم كانوا قد عبدوهم، فكان هذا كذباً، وقد ذكرنا في سورة الأنعام اختلاف الناس في أن أهل القيامة هل يكذبون أم لا، وقد تقدمت هذه المسألة على الاستقصاء، والذي نذكره ههنا، أن منهم من قال : إن المراد من قولهم ﴿مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ هو أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا ؟
قالوا : والدليل على أن المراد ما ذكرناه وجهان : الأول : أنهم استشهدوا بالله في ذلك حيث قالوا :﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ والثاني : أنهم قالوا :﴿إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَـافِلِينَ﴾ فأثبتوا لهم عبادة، إلا أنهم زعموا أنهم كانوا غافلين عن تلك العبادة، وقد صدقوا في ذلك، لأن من أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور ألبتة. ومن الناس من أجرى الآية على ظاهرها. وقالوا : إن الشركاء أخبروا أن الكفار ما عبدوها، ثم ذكروا فيه وجوهاً : الأول : أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة، فذلك الكذب يكون جارياً مجرى كذب الصبيان، ومجرى كذب المجانين والمدهوشين. والثاني : أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم/ ولهذا المعنى قالوا : إنهم ما عبدونا. والثالث : أنهم تخيلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة، فهم في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات، ولما كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات، فهم ما عبدوها وإنما عبدوا أموراً تخيلوها ولا وجود لها في الأعيان، وتلك الصفات التي تخيلوها في أصنامهم أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله بغير إذنه.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٥
٢٤٦
واعلم أن هذه الآية كالتتمة لما قبلها. وقوله :﴿هُنَالِكَ﴾ معناه : في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو يكون المراد في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان، وفي قوله :﴿تَبْلُوا ﴾ مباحث :