المسألة الرابعة :﴿أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ بدل من ﴿كَلِمَـاتُ﴾ أي حق عليهم انتفاء الإيمان.
المسألة الخامسة : المراد من كلمة الله إما إخباره عن ذلك وخبره صدق لا يقبل التغير والزوال، أو علمه بذلك، وعلمه لا يقبل التغير والجهل. وقال بعض المحققين : علم الله تعلق بأنه لا يؤمن وخبره تعالى تعلق بأنه لا يؤمن، وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه، بل بخلق الكفر فيه وإرادته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه، بل بخلق الكفر فيه، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ، وأشهد عليه ملائكته، وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء، فينقلب علمه جهلاً، وخبره الصدق كذباً، وقدرته عجزاً، وإرادته كرهاً، وإشهاده باطلاً، وإخبار الملائكة والأنبياء كذباً، وكل ذلك محال.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٨
٢٤٩
اعلم أن هذا هو الحجة الثانية، وتقريرها ما شرح الله تعالى في سائر الآيات من كيفية ابتداء تخليق الإنسان من النطفة والعلقة والمضغة وكيفية إعادته، ومن كيفية ابتداء تخليق السموات والأرض، فلما فصل هذه المقامات، لا جرم اكتفى تعالى بذكرها ههنا على سبيل الإجمال، وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام.
والجواب : أن الكلام إذا كان ظاهراً جلياً ثم ذكر على سبيل الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤول، كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.
السؤال الثاني : القوم كانوا منكرين الإعادة والحشر والنشر فكيف احتج عليهم بذلك ؟
والجواب : أنه تعالى قدم في هذه السورة ذكر ما يدل عليه، وهو وجوب التمييز بين المحسن وبين المسيء وهذه الدلالة ظاهرة قوية لا يتمكن العاقل من دفعها، فلأجل كمال قوتها وظهورها تمسك به سواء ساعد الخصم عليه أو لم يساعد.
السؤال الثالث : لم أمر رسوله بأن يعترف بذلك، والإلزام إنما يحصل لو اعترف الخصم به ؟
والجواب : أن الدليل لما كان ظاهراً جلياً، فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام، ثم إنه بنفسه يقول الأمر كذلك، كان هذا تنبيهاً على أن هذا الكلام بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به، وأنه سواء أقر أو أنكر، فالأمر متقرر ظاهر.
أما قوله :﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ فالمراد التعجب منهم في الذهاب عن هذا الأمر الواضح الذي دعاهم الهوى والتقليد أو الشبهة الضعيفة إلى مخالفته، لأن الإخبار عن كون الأوثان آلهة كذب وإفك، والاشتغال بعبادتها مع أنها لا تستحق هذه العبادة يشبه الإفك.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٤٩
٢٥٢
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الحجة الثالثة، واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً، عادة مطردة في القرآن، فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك / فقال :﴿الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ (الشعراء : ٧٨) وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وأمر محمداً صلى الله عليه وسلّم فقال :﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى * الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ (الأعلى : ١ ـ ٣) وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وله روح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى، وهو قوله :﴿مَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ﴾ (النمل : ٦٤) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية.
واعلم أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح، كما قال تعالى :﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنا بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْـاًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَا لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الحل : ٧٨) وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم، وأيضاً فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية، فإنها كمالات باقية أبد الآباد مصونة عن الكون والفساد، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية.
إذا ثبت هذا فنقول : العقول مضطربة والحق صعب، والأفكار مختلطة، ولم يسلم من الغلط إلا الأقلون، فوجب أن الهداية وإدراك الحق لا يكون إلا بإعانة الله سبحانه وتعالى وهدايته وإرشاده، ولصعوبة هذا الأمر قال الكليم عليه السلام بعد استماع الكلام القديم ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى﴾ (طه : ٢٥) وكل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة، مع أن الأكثرين وقعوا في الضلالة، وكل ذلك يدل على أن حصول الهداية والعلم والمعرفة ليس إلا من الله تعالى.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٥٢


الصفحة التالية
Icon