والجواب : أن القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله تعالى، وعلى هذه الحروف والأصوات، ولا نزاع في أن الكلمات المركبة من هذه الحروف والأصوات محدثة مخلوقة، والتحدي إنما وقع بها لا بالصفة القديمة.
أما قوله :﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ فالمراد منه : تعليم أنه كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة لو كانوا قادرين عليها، وتقريره أن الجماعة إذا تعاونت وتعاضدت صارت تلك العقول الكثيرة كالعقل الواحد، فإذا توجهوا نحو شيء واحد، قدر مجموعهم على ما يعجز كل واحد منهم، فكأنه تعالى يقول : هب أن عقل الواحد والاثنين منكم لا يفي باستخراج معارضة القرآن فاجتمعوا وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة، فإذا عرفتم عجزكم حالة الاجتماع وحالة الانفراد عن هذه المعارضة، فحينئذ يظهر أن تعذر هذه المعارضة إنما كان لأن قدرة البشر غير وافية بها، فحينئذ يظهر أن ذلك فعل الله لا فعل البشر.
واعلم أنه قد ظهر بهذا الذي قررناه أن مراتب تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالقرآن ستة، فأولها : أنه تحداهم بكل القرآن كما قال :﴿قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى ا أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء : ٨٨) وثانيها : أنه عليه السلام تحداهم بعشر سور قال تعالى :﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِه مُفْتَرَيَـاتٍ﴾ وثالثها : أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال :﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه ﴾ (الطور : ٣٤) ورابعها : أنه تحداهم بحديث مثله فقال :﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه ﴾ وخامسها : أن في تلك المراتب الأربعة، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عدم التلمذ والتعلم، ثم في سورة يونس طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان سواء تعلم العلوم أو لم يتعلمها. وسادسها : أن في المراتب المتقدمة تحدى كل واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال :﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ وههنا آخر المراتب، فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أن القرآن معجز، ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن فقال :﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِه وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه ﴾ واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوهاً :
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٥٦
الوجه الأول : أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا : ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها : فأولها : بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم، ونقل أهله من العز إلى الذل ومن الذل إلى العز / وذلك يدل على قدرة كاملة. وثانيها : أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى، فنهاية كل متحرك سكون، وغاية كل متكون أن لا يكون، فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة، كما قال :﴿لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ ﴾ (يوسف : ١١١) وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلّم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ، دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى، كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص ﴿وَإِنَّه لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ (الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٤).
والوجه الثاني : أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم بالقرآن. وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله :﴿هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ مِنْهُ ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ﴾ (آل عمران : ٧).
والوجه الثالث : أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئاً فشيئاً، فصار ذلك سبباً للطعن الرديء فقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة فأجاب الله تعالى عنه بقوله :﴿كَذَالِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ (الفرقان : ٣٢) وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان.
والوجه الرابع : أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر، والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت، ولم يتقرر ذلك في قلوبهم، فظنوا أن محمداً عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب، والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة.


الصفحة التالية
Icon