المسألة الثانية : المعتزلة احتجوا بقوله :﴿قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَآءَ اللَّه ﴾ / فقالوا : هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملوله :﴿إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ يدل على أن أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله، وكذلك المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه، وهذه مسألة طويلة وقد ذكرناها في هذا الكتاب في مواضع كثيرة.
المسألة الخامسة : أنه تعالى قال ههنا :﴿إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ فقوله :﴿إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ﴾ شرط وقوله :﴿فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ جزاء والفاء حرف الجزاء، فوجب إدخاله على الجزاء كما في هذه الآية، وهذه الآية تدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط لا متأخراً عنه وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي وإنما يدل على كونه جزاء.
إذا ثبت هذا فنقول : إذا قال الرجل لامرأة أجنبية إن نكحتك فأنت طالق قال الشافعي رضي الله عنه : لا يصح هذا التعليق، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يصح، والدليل على أنه لا يصح أن هذه الآية دلت على أن الجزاء إنما يحصل حال حصول الشرط، فلو صح هذا التعليق لوجب أن يحصل الطلاق مقارناً للنكاح، لما ثبت أن الجزاء يجب حصوله مع حصول الشرط، وذلك يوجب الجمع بين الضدين، ولما كان هذا اللازم باطلاً وجب أن لا يصح هذا التعليق.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٦٣
٢٦٤
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن قولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : حاصل الجواب أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب بتقدير أن يحصل هذا المطلوب وينزل هذا العذاب ما الفائدة لكم فيه ؟
فإن قلتم نؤمن عنده، فذلك باطل، لأن الإيمان في ذلك الوقت إيمان حاصل في وقت الإلجاء والقسر، وذلك لا يفيد نفعاً ألبتة، فثبت أن هذا الذي تطلبونه لو حصل لم يحصل منه إلا العذاب في الدنيا، ثم يحصل عقيبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه، وهو أنه يقال : للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد، ثم يقرن بذلك العذاب كلام يدل على الإهانة والتحقير وهو أنه تعالى يقول :﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ فحاصل هذا الجواب : أن هذا الذي تطلبونه هو محض الضرر العاري عن جهات النفع والعاقل لا يفعل ذلك.
المسألة الثانية : قوله :﴿بَيَـاتًا﴾ أي ليلاً يقال بت ليلتي أفعل كذا، والسبب فيه أن الإنسان في الليل يكون ظاهراً في البيت، فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل والبيات مصدر مثل التبييت كالوداع والسراح، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا، لأن الإنسان في النهار يكون ظاهراً في الظل. وانتصب بياتاً على الظرف أي وقت بيات وكلمة ﴿مَاذَا﴾ فيها وجهان : أحدهما : أن يكون ماذا اسماً واحداً ويكون منصوب المحل كما لو قال ماذا أراد الله، ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي، فيكون ماذا كلمتين ومحل ما الرفع على الابتداء وخبره ذا وهو بمعنى الذي، فيكون معناه ما الذي يستعجل منه المجرمون ومعناه، أي شيء الذي يستعجل من العذاب المجرمون.
واعلم أن قوله :﴿إِنْ أَتَـاـاكُمْ عَذَابُه بَيَـاتًا أَوْ نَهَارًا﴾ شرط.
وجوابه : قوله ماذا يستعجل منه المجرمون، وهو كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني، يعني : إن حصل هذا المطلوب، فأي مقصود تستعجلونه منه.
وأما قوله :﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنتُم بِه ا ﴾ فاعلم أن دخول حرف الاستفهام على ثم كدخوله على الواو والفاء في قوله :﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ﴾ (الأعراف : ٩٨) ﴿أَفَأَمِنَ﴾ (الأعراف : ٩٧) وهو يفيد التقريع والتوبيخ، ثم أخبر تعالى أن ذلك الإيمان غير واقع لهم بل يعيرون ويوبخون، يقال : آلآن تؤمنون وترجون الانتفاع بالإيمان مع أنكم كنتم قبل ذلك به تستعجلون على سبيل السخرية والاستهزاء، وقرىء ﴿الْـاَـانَ﴾ بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٦٤
وأما قوله :﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ فهو عطف عى الفعل المضمر قبل ﴿الْـاَـانَ﴾ والتقدير : قيل : آلان وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد.
وأما قوله تعالى :﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ ففيه ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أينما ذكر العقاب والعذاب ذكر هذه العلة كأن سائلاً يسأل وهو يقول : يا رب العزة أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا التشديد والوعيد، فهو تعالى يقول :"أنا ما عالمته بهذه المعاملة ابتداء بل هذا وصل إليه جزاء على عمله الباطل" وذلك يدل على أن جانب الرحمة راجح غالب، وجانب العذاب مرجوح مغلوب.


الصفحة التالية
Icon